كانت السياحة قديما أهم مورد اقتصادي، فلم تنشأ المدن الكبرى إلا على ملتقى الطرق التجارية التي تزدحم فيها القوافل والسفن العابرة، فبغداد بتاريخها الاقتصادي العريض، استطاعت أن تبني ازدهارها طوال تلك العقود على مفهوم التجارة السياحية البينية، مستندة إلى نهر دجلة، وربطها للعالم بطرق القوافل العابرة لكل الدنيا، فتحولت مع تنامي دور التجار خاصة إلى مزار سياحي، فالجميع يريد التجارة والسياحة، وهكذا كانت البندقية في فترة ازدهار مقاربة لتلك التي شهدتها بغداد، والإسكندرية في فترة تاريخية قديمة، وفي اقتصادنا المحلي ارتبط اسم جدة بتلك المدينة الرائعة التي ربطت السعودية بالعالم تجاريا ودينيا، وتحولت مع نمو التجارة والتجار فيها إلى مزار سياحي، وهكذا الحال في عواصم اليوم مثل دبي التي تزاحم بقوة على خريطة السياحة العالمية، وهي ترتكز ابتداء على مفهوم التجارة، وهكذا هي الأمور، فالسياحة ليست صناعة منعزلة، ولا تنشأ لمجرد سهل جميل وواد عريض ولو كان نهرا، فكم من دول ذات أنهار عظيمة لا سياحة فيها، لأنها فشلت تجاريا. ومشروعنا السياحي الكبير الذي انطلق مع رؤية السعودية 2030، قائم على مرتكزات واضحة، فهي تسعى لربط قارت العالم الثلاث بقوة في الجانب اللوجستي والمناطق الخاصة وتعزيز التجارة البينية. وقد لخصت في مقالي السابق دور إعادة التصدير في المشروع الاقتصادي الكبير، فالمفاهيم واضحة جدا للوصول إلى مدن تجارية صناعية مكتملة ذات عمق سياحي كبير، فهذه المواضيع مترابطة جدا، ويجب قراءة المشهد السياحي بتأن وفقا لهذه المعطيات وليس وفقا لمعطيات قديمة أو مسرح اقتصادي انتهى دوره منذ زمن.
في عسير هذا العام هناك انتقاد لضعف الإقبال السياحي (كما تابعت في وسائل التواصل وفي مقالات متعددة)، والجميع يعتقد أن السبب يعود إلى ارتفاع الأسعار وضعف جودة المنتج، وأنا أعتقد أن هذه قراءة خاطئة للمشهد ككل، ذلك أنها تستند إلى توظيف مفاهيم قديمة قبل الرؤية وقبل المدن التجارية والصناعية الحديثة ونمو القطاع اللوجستي، فالسياحة الجديدة في السعودية تعمل على إضافة مدن جديدة تماما مثل العلا ومنتجعات البحر الأحمر والعمل على قدم وساق في نيوم والدرعية والقدية، كما أن التنافسية عالية بين المدن ذات السمعة السياحية القديمة نوعا ما، وكل هذه المعطيات تشير إلى مناخ سياحي ساخن جدا، والمنافسة على أشدها، وهذا من أهم النتائج الإيجابية للمشروع السياحي الكبير، وقد قال ولي العهد بمناسبة تقديم ملف كأس العالم 2034، "إن السعودية أصبحت واحدة من أهم الوجهات السياحية الواعدة والأكثر جذباً للسياح على مستوى العالم، تصدرت قائمة الأمم المتحدة العالمية في نمو عدد السياح الدوليين في 2023". فالتغيرات في مشهد السياحة في عسير ليس بسبب الجودة أو الأسعار، فهذا يظلم المنطقة وأبناءها وجهودهم، وتصدير مثل هذه القراءة فيه مغالطة، ذلك أن مشروعنا السياحي الكبير -كما أشرت- أصبح ممتدا من شمال السعودية حتى جنوبها، وهناك مدن جديدة على الخريطة السياحية، كما أن هناك مسارا سياحيا جديدا له ارتباط بالنشاط اللوجستي والرياضي، الذي تتبدى معالمه يوما بعد يوم، وهناك مدن جديدة قريبا.
إضافة إلى ذلك فالسياحة في السعودية لم تعد "تصنيف" سياحة داخلية وخارجية، حيث يضيق مفهوم السائح على المواطن فقط، (فإذا لم نشاهد المواطن السعودي فقد فشل الموسم السياحي)، بل السياحة اليوم صناعة حقيقية تجذب السياح الأجانب ابتداء، الذين أصبحوا يسابقون للتعرف على مدن سعودية لم تكن في طريق السفر المعتاد للأجانب، فانتقال السياح لهذه لمناطق مثل عسير يدل على حراك جديد وعوامل جذب مختلفة، ولم يشتكِ هؤلاء السياح لا من أسعار ولا من سكن. إذن ما يتم تداوله في وسائل التواصل أو بعض المقالات في تقييم السياحة في عسير يعد قراءة خاطئة في نظري، فالمشهد قد تغير، وهناك عوامل حديثة.
ومع استكمال مشاريع المنطقة الإستراتيجية ومن بينها مشاريع كأس العالم تحت إشراف أمير المنطقة وبتوجيهات ومتابعة من ولي العهد، فإن عسير خاصة مقبلة على ثورة سياحية يجب أن نستعد لها ثقافيا وتجاريا وعقاريا، خاصة (وهذا عن تجربة) أن الدول التي ظهرت على المشهد السياحي دون هذه المرتكزات في السنوات الأخيرة لم تعد جاذبة، وقد بدأت في التراجع فعلا، نظرا للسلوك العنيف مع السائح العربي عموما والسعودي خاصة، كما أنها استنزفت كل رموزها السياحية دون تقدم حقيقي على المسار.
نقلا عن الاقتصادية