انتهت بطولة الأمم الأوروبية لكرة القدم (يورو 2024)، وهي بطولة كانت تُوصف بأنها أشبه بكأس العالم لكن دون منتخب البرازيل، إلا أن البطولة الحالية اتسمت بالضعف الفني، حسب آراء العديد من المحللين الرياضيين، ومن وجهة نظر اقتصادية، فقد اختلفت هذه البطولة عن سابقاتها بطريقة تستحق التأمل، فقد اكتسحت الشركات الصينية رعاية هذه البطولة بخمس شركات من أصل 13 شركة، فما الذي جعل الشركات الصينية تُقبل على رعاية بطولة كروية، وهي التي لا ناقة لها ولا جمل في كرة القدم؟ وكيف وافق اتحاد كرة القدم الأوروبي (يويفا) على الشراكة مع الصينيين على الرغم من الخلافات العلنية بين أوروبا والصين في الاقتصاد والقيم؟
أكثر ما يبعث على النظر في هذه الرعايات، هو رعاية شركة «بي واي دي» الصينية المتخصصة في السيارات الكهربائية، التي تنافس بشكل مباشر السيارات الألمانية، صاحبة الأرض في هذه البطولة، فالشركة الصينية تملك 22 في المائة من الحصة السوقية للسيارات الكهربائية في العالم، وتأتي بعدها «تيسلا» بنحو 13 في المائة، ومن ثم «فولكس واجن» الألمانية بنحو 7 في المائة، ولا يبدو أن «يويفا» راعى المصالح التجارية لأوروبا عند النظر في هذه الشراكة، لا سيما أن المفوضية الأوروبية قررت مؤخراً فرض رسوم جمركية على «بي واي دي» بنسبة 17.4 في المائة بسبب الإعانات الحكومية المقدمة لها من حكومة الصين، التي وصفتها المفوضية الأوروبية بغير العادلة، وأنها تتسبب بأضرار اقتصادية لمنتجي السيارات الكهربائية الأوروبيين.
أما الشركات الصينية الأخرى فقد اتسمت بالطابع التقني، مثل «علي إكسبرس» التي اتخذت من اللاعب الإنجليزي المعتزل ديفيد بيكهام سفيراً لها من خلال الإعلانات التجارية، وتقدم هدايا مع كل هدف يُسجل في البطولة، ولا يبدو أنهم سيعطون الكثير من الهدايا قياساً إلى عدد الأهداف المنخفض نسبياً في هذه البطولة، و«فايفو» مصنّعة أجهزة الهواتف المحمولة الذكية، و«هاينسيس» التي سبق لها رعاية هذه البطولة من قبل، وهي كذلك تقدم الخدمات التقنية للبطولة من خلال أجهزة مساعدة التحكيم (VAR)، وأخيراً «علي باي» الذراع المالية لمجموعة «آنت» الصينية.
من وجهة نظر صينية، فإن التوسع خارج السوق الصينية مطلب ضروري، والإعلان في بطولة متابعة كهذه البطولة يُعد بوابة للعالم بأسره وليس الاتحاد الأوروبي لوحده، وتشير التقارير إلى أن العدد التراكمي للجمهور لهذه البطولة قد يصير إلى 5 مليارات في غالبية دول العالم، وقد صدرت دراسات توضح ارتفاع مبيعات «هاينسيس» بعد رعايتها إحدى البطولات الأوروبية السابقة، كما يُسهم هذا الظهور في تعزيز العلامات التجارية الصينية في بطولة ذات مستوى عالٍ وذلك لتجاوز النظرة النمطية عن جودة المنتجات الصينية، وتعطي هذه الرعاية فرصةً للشركات الصينية لتقديم منتجاتها لجمهور دولي كبير، سواء على مستوى الحضور في ألمانيا أو خارجها، وأخيراً فإن وجود شركة سيارات كهربائية صينية في قلب أوروبا لتصنيع السيارات يعطي إضافة للصناعات الصينية ومدى تواؤمها مع التوجهات الأوروبية الخضراء.
أما من وجهة النظر الأوروبية، فيبدو أن الاستثمار في كرة القدم وأهمية ضخ الأموال لـ«يويفا» كانا أهم من الاعتبارات الأخرى، فإيرادات الرعاية التجارية وصلت إلى 600 مليون يورو، وهو مبلغ ضخم يشكل نحو ربع الإيرادات المتوقعة لهذه البطولة، وقد سبق للألمان إبان استضافتهم كأس العالم 2006 تفضيل شركة «هيونداي» الكورية على بقية الشركات الألمانية، لكن العالم تغير منذ ذلك الحين، ولا دليل على ذلك أكثر من مقارنة الشركات التي رعت تلك البطولة بالأخرى التي رعت البطولة الحالية، فلم توجد أي شركة صينية في رعاية كأس العالم 2006، بينما خلت البطولة الحالية من الشركات اليابانية التي حضرت آنذاك، وهو دلالة على تغير موازين القوى.
إن الرعاية الكثيفة والحضور القوي للشركات الصينية في بطولة «يورو 2024» قد يظهران نوعاً من عدم الاتساق في الموقف الأوروبي، فالأوروبيون بشكل عام يتفقون مع الأميركيين على ضرورة الحد من النفوذ الصيني الاقتصادي، ومن التوسع التجاري للصين، والاتحاد الأوروبي يفرض رسوماً جمركيةً على الشركات الصينية الراعية مثل «بي واي دي»، ويجري التحقيقات للنظر في ممارسات الشركات الصينية المخالفة لحقوق الإنسان، ومنها «علي إكسبرس» نفسها، التي أطلق الاتحاد الأوروبي تحقيقاً بشأنها قبل أسبوعين فقط من الإعلان عنها شريكاً رسمياً لكأس الأمم الأوروبية، وهي كذلك شريك رئيس في الألعاب الأولمبية حتى عام 2028، وفي ذلك خلاف لما يطلقه «يويفا» من تعهدات بشأن تعزيز القيم والأهداف الأوروبية من خلال قوة كرة القدم، ويؤدي ذلك كله إلى نقاش طويل سيدخل فيه الأوروبيون، بعد تحصيل أموال رعاية الشركات الصينية، التي يختلف معها في المبادئ ويتفق معها في الرعاية التجارية.
نقلا عن الشرق الأوسط