تُعد الشركات الأجنبية متعددة الجنسية هي السبيل الرئيسي للاستثمار الأجنبي، ولها دور فعّال جدًا في هذا الصدد، حيث تسعى الدول ومن ضمنها المملكة العربية السعودية أن تصبح من أهم المناطق الجاذبة التي تشجّع المستثمرين والشركات الأجنبية على الاستثمار فيها. لكن يجب أن نعلم أن جميع أنواع العقود مع الشركات العالمية المتعددة الجنسيات والمسمى (بالاستثمار الأجنبي) غير متماثلة، إذا ليس الهدف من سياسة هذه الشراكات والعقود هو الاختيار بين الاستثمار المحلي والأجنبي، وإنما الربط بينهما عن طريق سلسلة القيمة المضافة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، فالأنواع المختلفة من هذه الشراكات والعقود لها آثار مختلفة على التطوير المعرفي والتكنلوجي، والمساهمة الفعّالة في برامج التدريب والتطوير لمواطني البلد المضيف، ومن ثم الانعكاس على الجانب الاقتصادي بأكمله، وهذه تستلزم سياسات مختلفة.
لذا، فمن الضروري أن تتجاوز استراتيجية سياسات الاستثمار مسألة جذب الاستثمارات المبدئية، فهذا مجرد جزء ضئيل من الأمر برمته. فلذلك تأتي الفوائد الحقيقية التي تتحقق للدولة في مرحلة تالية في العلاقة، عندما ينجح البلد المعني (المملكة العربية السعودية) في الاحتفاظ بالاستثمار الأجنبي، وبناء علاقات قوية مع أنشطة الأعمال المحلية، فيكون الاستثمار الأجنبي المتمثّل في العقود والشراكات مع الشركات العالمية ليس صفقة، وإنما هو علاقة، في كافة القطاعات الاقتصادية يمكن للمستثمرين الأجانب (الشركات العالمية متعددة الجنسيات) استقدام رأس المال، وتوفير فرص عمل، والتكنولوجيا المتقدمة، ونقل المعرفة، وتقديم برامج تدريب وتطوير للعاملين السعوديين سواء كانوا مديرين، أو مهندسين، أو خبراء، أو مهنيين، حتى تنتقل الخبرات والمعارف، ومفاتيح التكنلوجيا في هذه الصناعات المندرجة تحت هذه القطاعات الاقتصادية إلى الكادر المحلي السعودي. وكذلك من الفوائد التي يمكن جنيها من الاستثمار والشراكة مع الشركات العالمية متعددة الجنسيات مساعدة الشركات المحلية على التكامل مع سلاسل القيمة المضافة العالمية، ودفع النمو الاقتصادي قدماً بصورة عامة.
غير أن هذه الفوائد المحتملة لا تتحقق من تلقاء نفسها، بل تحتاج إلى نموذج متناسق مع طبيعة الصناعة التي تتم فيها الشراكة، حيث إن هناك العديد من المتغيرات التي يكون لها تأثير عند دراسة استراتيجية الشراكات مع الشركات العالمية متعددة الجنسيات والسياسات التي تستلزمها. وليس من الضروري أن يتم التعامل معها جميعاً على قدم المساواة، إذ يكون للأنواع المختلفة من الشراكات (الاستثمارات) تأثيرات مختلفة يجب دراستها.
إذن.. كيف يتسنى لصناع السياسات استعراض هذه القرارات وضمان أن الشركات العالمية متعددة الجنسيات التي تأتي إلى المملكة العربية السعودية تساعدنا على التقدم، ويحقق عن طريقها الاستفادة لبلدنا وللقطاع والهيئة التي قامت بالتعاقد والشراكة معها؟ والواقع أننا بحاجة إلى وسيلة منطقية للربط بين أهداف هذه العقود والشراكات مع الشريك الأجنبي المتمثّل في الشركات الأجنبية العالمية، حيث توفّر الشركات العالمية متعددة الجنسيات أنواعاً مختلفة من برامج التدريب والتطوير التي تختلف في طبيعتها، فعلى سبيل المثال تطوير المهارات الأساسية أو ما يسمى بالمهارات الناعمة، وهي مهارات قابلة للانتقال إلى المتدرب لأنها في الغالب تركّز على مهارات العرض والتواصل.
كما توفّر هذه الشركات العالمية برامج تدريب وتطوير فنية وتقنية ذات صلة بوظائف محددة مثل التعامل مع المشاريع المعقدة والمسائل الفنية، كما تقدم برامج متميزة في التدريب في إدارة المواهب لأن هذه النوع من برامج التدريب والتطوير هي مهمة جداً للمراكز القيادية العليا لأنها تزيد من المزايا التنافسية، وكذلك توفّر التدريب المهني والتطوير للمديرين المحليين، وهذا النوع من التدريب هو بشكل عام التدريب والتطوير الخاص بالوظيفة، ويتم عقد معظم برامج التدريب والتطوير سواء في البلد المضيف الذي توجد فيه (المملكة العربية السعودية) أو في الخارج كأن يكون التدريب عبر دورات في جامعات عالمية، أو في شركات عالمية في نفس القطاع والتخصص، أو لها اهتمامات ذات علاقة بهذا القطاع.
بالنسبة لبرامج التدريب والتطوير التي تقدمها الشركات العالمية متعددة الجنسيات للمديرين المحللين ضمن فئتين رئيسيتين، برامج قصيرة الأجل وطويلة الأجل. حيث إن البرامج قصيرة الأجل تستغرق مدة ما بين يوم إلى بضعة أسابيع، وتشتمل أمثلة هذه الأنواع من التدريب على برامج تدريب مثل المفاوضات مع العملاء وحل مشاكلهم (يوم واحد)، وكذلك برامج التدريب القصير التحليل للبيانات (2-3 أيام). بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يتم ترتيب برامج طويلة الأجل لفترة أطول يمكن أن تصل إلى 24 شهراً، فعلى سبيل المثال، برامج القيادة، حيث يتم عقد برامج مثل الماجستير التنفيذية في إدارة الأعمال أو برامج ماجستير إدارة الجودة، أو إدارة المشاريع، وتكون غالباً في البلدان المتقدمة مثل بريطانيا، وأمريكا واليابان أو غيرها من الدول المتقدمة.
المعارف والمهارات المكتسبة نتيجة التدريب والتطوير في الشركات الأجنبية
هذه البرامج التدريبية لها تأثيرات إيجابية على المديرين والعاملين (الموظفين) المحليين (السعوديين) العاملين في القطاعات كافة سواءً الوزارات أو الهيئات الحكومية، أو على القطاع شبه الحكومي مثل الشركات التي تملك فيها الحكومة نسبة تملك عالية، أو على القطاع الخاص، وكذلك على الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات المتعاقدة مع هذه الجهات المحلية. لذا، قد ينتج عن برامج التدريب والتطوير التي تقوم بها هذه الشركات للموظفين والعاملين والمديرين السعوديين فهم أفضل للعمل وللأعمال التنظيمية، وزيادة الأداء والإنتاجية، وتطوير الأفكار الإبداعية وحلول المشكلات، وزيادة التفاعل مع الخبراء من دول أخرى.
هذه المنافع التي تحققها الكوادر المحلية السعودية تعود بمنافعها أيضاً على الشركات العالمية متعددة الجنسيات التي قامت بهذه البرامج التدريبية من حيث تحسن الأداء، وزيادة الإنتاجية لأن جزءاً من متلقي التدريب السعوديين يعملون في تلك الشركات. كما تتيح برامج التدريب والتطوير التي تقدمها هذه الشركات العالمية للمديرين والعاملين السعوديين لديها فرصاً للترقية والتقدم الوظيفي، بحيث يمكن لهم البقاء في الشركة الأجنبية لمن أراد ذلك، أو الانتقال إلى مؤسسات ومنظمات سعودية محلية حكومية أو غير حكومية، والحصول على مناصب أعلى وأجور أعلى، ونقل المعرفة والتقنية التي اكتسبوها من برامج التدريب والتطوير والخبرات التي تلقوها إلى المؤسسات والمنظمات المحلية السعودية.
ومع ذلك، تعتمد هذه الآثار غير المباشرة على نوع برامج التدريب، على سبيل المثال، تسهم برامج تطوير المهارات في تطوير المهارات الشخصية مثل مهارات العرض والتواصل التي تعد مهارات قابلة للانتقال، وهي مطلوبة من المديرين العاملين في المؤسسات عبر الصناعات والقطاعات. لذلك، من المرجح أن تكون الآثار غير المباشرة لهذه البرامج أوسع، وأن تحدث في الصناعة والقطاع داخلها.
فبرامج التدريب والتطوير التي تركّز على البرامج الوظيفية والتجارية والتقنية التي تسهم في تنمية المهارات والمعارف سوف تسهم في خلق وظائف تجارية معينة، ومجالات تقنية محددة تعتمد على نوع مجال المهارات والمعرفة. على سبيل المثال، قد تؤدي المهارات والمعرفة في تطوير برمجيات تكنولوجيا المعلومات، وتطبيقات المحاكاة في الذكاء الاصطناعي والمجالات التقنية والفنية المحددة إلى آثار إيجابية في صناعات محددة مثل صناعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والفضاء الجوي.
ومع ذلك، قد تؤدي برامج التدريب والتطوير التي تختص بتطوير المهارات في وظائف محددة مثل علاقات العملاء، أو إدارة المشاريع إلى نتائج أوسع لأن المهارات والمعرفة في هذه المجالات لا تقتصر على أي قطاع صناعي أو قطاع أعمال معين. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الآثار غير المباشرة لبرامج التدريب على المستوى المتقدم مثل إدارة المواهب وبرامج القيادة التي تركّز على تطوير مهارات كبار المديرين في إدارة المواهب والقيادة لديها تأثيرات جانبية أكبر بسبب قابلية النقل وتطبيق المهارات الإدارية والقيادية في مختلف القطاعات والقطاعات. وبالتالي يمكن القول: إن نوع برامج التدريب والتطوير يحدد نطاق التدفقات المتصلة برأس المال البشري إلى الهيئات المحلية سواء الحكومية وغير الحكومية.
وفي الختام.. مجالات الشراكات والتوطين أدلة تجريبية على أن الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات لديها مساهمات إيجابية في تنمية رأس المال البشري المحلي في الدول النامية مثل المملكة العربية السعودية. هذه المساهمات الإيجابية تحدث بسبب برامج التدريب والتطوير التي تقدمها هذه الشركات العالمية للكوادر المحلية السعودية، والخبرات التي يكتسبونها من خلال الاحتكاك والعمل في تلك الشركات العالمية التي لها عقود ومشاريع في المملكة العربية السعودية.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد يونيو 2024