يتحدث الخبراء والمختصون بأن التحسن والمعرفة التقنية أهم عاملين في النمو الاقتصادي على المدى البعيد، لكن هذه المعرفة لن تأتي من فراغ أو من خلال تعليم أكاديمي دون ممارسة اقتصادية تطبيقية واختبار عملي في سلسلة الإنتاج والترابط والإمداد. وهنا نقول الاقتصاد في الأخير شبكة تواصل بين أطراف ومصالح متعددة يتم من خلالها تحولات كثيرة في المنتج والممد والمصمم والمحول والناقل والمستهلك. العلاقة بين هذه الأطراف وتفاعلها حيز التعلم ومصدر الإنتاجية والأسعار التحولية، أنماط وخريطة العلاقات يصورها الاقتصاديون عادة من خلال قاعدة المدخلات والمخرجات. هذا من جانب التأطير المتعارف عليه بين الاقتصاديين، ولكن هناك جانب في الواقع يخص كل مجتمع وتاريخ تطوره الاقتصادي كما هو من خلال النهج والسياسات الاقتصادية فعليا وليس كما ينادي المختصون مثاليا. دعنا أولا نذكر شيئا عن التاريخ "التقني والمعرفي".
كان لدينا مسار تاريخي مختلف حتى السبعينات من القرن الماضي، فحتى تلك الفترة المفصلية كان التطور التقني والمعرفة الفنية تتحرك بطريقة سريعة، ولكن الأهم أنها طبيعية وفي نسق القدرات المجتمعية على الاستيعاب والاختزال والمماحكة والتعلم التدريجي، على عكس ما يتصور الأغلبية عن الماضي القريب، لأننا نعيش في عصر التواصل المعلوماتي السريع الذي من إفرازاته الوهم المعرفي، عصر أسهمت فيه أجهزة التواصل الاجتماعي من خلال الخلط بين المعلومات والمعرفة، فأصبح كل مطلع على المعلومة السهلة يعتقد بأنه أصبح على علم ومعرفة دون أي ممارسة ومماحكة عملية. ما كان يحدث في المجتمع كان تطورا طبيعيا وعضويا، فكان هناك أصحاب مهن وموروث خبرة تراكمية وعلاقة مع المورد والمنتج والمستهلك. حجم الاقتصاد بعد الطفرة والفرحة بالحياة المريحة أخفى سلم القيمة المعرفية الفنية وقطع وتيرة التطور الطبيعي. طبعا لن نعيد نسق مرحلة انتهت ولن نسترجع أنماط علاقات اقتصادية استبدلت بأنماط وعلاقات أقرب للعصر. لكن ما يهمني هو العلاقة بين الجزء الأول والثاني من العمود.
لكل مجتمع اقتصادي حالة معينة ولذلك البداية في الدقة واليقين حول خريطة المعرفة الفنية ومركزيتها مجتمعيا، لأن تعظيم المصلحة من الوظيفة الإدارية والشكلية أسرع وأعلى عائدا من المعرفة الفنية وسهولة تناقلها. الرابط بين خريطة المدخلات والمخرجات والحالة واقعيا هو تقييم عميق للحالة الفنية لدى عشرات وربما مئات الآلاف من العاملين في القطاعين. النماذج الإطارية مثل قاعدة المدخلات والمخرجات قد تخفي كثيرا، لأن تصميمها لا يفرق بين المواطن والوافد ولا بين المسميات والعنوانين والأعمال الحقيقية، وربما الأهم داومة المقارنة بين دول مختلفة المراحل في التنمية الاقتصادية، خاصة أن أغلب من يقدمها شركات هذه الدول.
يقال أن التاريخ مهم فقط بقدر الاستفادة منه للوضع الحالي والمستقبل. لدينا تاريخ مشرف وحاضر مريح، ومستقبل واعد في السيطرة على المعرفة الفنية وتوليدها. المعرفة الفنية مخزون وطني متغير، الحفاظ عليه يتطلب تدخلات إدارية مختارة. حدث تغير كوني في المحيط الوطني يستوجب إعادة تأطير من خلال دمج إبداعي بين خريطة مدخلات ومنتجات للوقوف على الروابط الاقتصادية ومفاصل الإنتاجية والتمكين المعرفي الفني والعلمي من ناحية والوقوف على تشخيص واقعي قبل الدخول في تأطير أكاديمي قد لا يضيف الكثير دون تحليل صريح وعميق للحالة. قد لا نستطيع التوصل لمؤشر لرصد حالة التعلم والمعرفة و لكن هذا لا يعفينا من رصد ومتابعة الوضع.
نقلا عن الاقتصادية