حيرني سؤال انبثق عن نقاش مع عدد من الأصدقاء وودت مشاركتكم إياه. هل التجارة تتبع الصناعة والخدمات، أم أن الصناعة تتبع التجارة والخدمات. أقصد بهذا، هل تتم صياغة السياسات التجارية والخدمية وفق معطيات ومتطلبات السياسات الصناعية أم العكس. وسبب هذا التساؤل هو الشد والجذب بين الأصدقاء الذين جالستهم ممن ينتسبون للتجارة والصناعة. ويبدو أن الخدمات ومنها اللوجستية تقف على الحياد إذ أنها تخدم الاتجاهين دون تمييز إذا ما تركت دون تحفيز نحو اتجاه محدد، الصديق الذي يتبنى الاتجاه التجاري يدفع بأن تنوع قوى العرض، وتعدد مصادر العرض، واختلاف الأسعار والجودة وزمن التسليم عناصر تخدم المستهلك بشكل رئيسي، إذ يعتبر المستهلك محور الإقتصاد من وجهة نظر هذا الاتجاه. وتضع هذه المزايا خيارات كبيرة أمام ذائقة وقدرة وحاجة المستهلك. بل يتعدى زميلنا هذا الطرح إلى أن هذا التوجه يرفع من تنافسية القطاع الصناعي المحلي والدولي، إذ تتنافس خطوط الإنتاج لتصنيع السلعة بجودة وسعر وفترة تسليم تتناسب مع رغبة المستهلك. اضافة لذلك، فإن التجارة ضاربة في عمق تاريخ المملكة والجزيرة العربية منذ رحلتا الشتاء والصيف.
وفي الجهة الأخرى، يدفع صديقنا الصناعي بأن المستهلك بالفعل هو محور الاقتصاد إذ يحتاج إلى وظيفة مناسبة. وأن الوظائف التي يستحدثها القطاع الصناعي، بشكل مباشر وغير مباشر، أعلى من تلك التي يولدها القطاع التجاري والخدمي، حيث يبدأ القطاع الصناعي النشاط بسلسلة التوريد للمواد الخام، ثم التصنيع، ثم التخزين والتوزيع والمبيعات للمنتجات النهائية. أما القطاع التجاري، فإن نشاطه يبدأ باستيراد منتج نهائي ليقوم بتخزينه وتوزيع وبيعه فقط . وحتى يستطيع المصنع توليد الوظائف للاقتصاد، فهو يحتاج إلى طلب على منتجاته. وفي ظل تدفق الواردات بدون سياسة توجيهية، فإن نمو الوظائف في القطاع الصناعي يظل محدوداً. بل يدفع زميلنا، بأن حوالي ٤٠٪ إلى ٥٠٪ من سعر بيع المنتجات هي عبارة عن تكلفة مبيعات (تكاليف مباشرة). وفي حال استيراد المنتجات، فإن الاقتصاد الوطني يفقد هذه النسبة لصالح عمالة، ومواد خام، ومواد التعبئة والتغليف، والطاقة وغيرها من عناصر التكاليف المباشرة لصالح اقتصاد الدولة التي تم الاستيراد منها. كما يفقد أيضاً جزءً من التكاليف غير المباشرة والتي تتمثل في بنود يمكن ان يستفيد منها الاقتصاد الوطني. في حين أن ارتفاع سعر المنتج الوطني، إن وجد وبنسبة معقولة، فسيكون ذلك في سبيل الحفاظ على هذه النسب داخل الاقتصاد الوطني لخلق وظائف مباشرة وغير مباشرة، وتحسين ميزان المدفوعات بتوطين الواردات بل والتصدير، وجذب الاستثمارات للقطاع، ورفع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي، مما يعني اقتصاد وطني أقوى وأكثر استدامة. إضافة لذلك، لم تنهض المملكة اقتصادياً وبقوة، إلا بعد الصناعة الاستخراجية واكتشاف النفط. وبالتالي، هناك مفارقة كبيرة بين الاعتماد على التجارة والاعتماد على الصناعة بعد الله عز وجل. وأن الصناعة التحويلية، هي امتداد لتاريخ المملكة الصناعي، والذي سينتقل باقتصادها لأفق جديد عبر زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي.
وبعد أن استعرضنا وجهتي النظر، نعود للسؤال حول السياسات وارتباطها. فعندما نتحدث عن السياسة التجارية نقصد بذلك على سبيل المثال ابرام اتفاقيات التجارة الحرة. هل يتم تحديد الدول التي يتم ابرام اتفاقيات معها من خلال الاتجاه التجاري الذي ذكرنا وجهة نظره أعلاه مثل تنوع المعروض بسعر وجودة تناسب المستهلك، أم الاتجاه الصناعي الذي يبحث عن أسواق جديدة لنفاذ الصادرات أم كلاهما معاً، وكمثال ثانٍ أكثر تعقيداً، وعند التطرق لسياسات المشتريات الحكومية مثلاً، فقد اتبعت بعض الدول سياسات صارمة تمنع تنفيذ المشاريع الوطنية بمنتجات غير محلية، ومن هذه المشاريع تلك التي ترتبط بالبنية التحتية والخدمات اللوجستية مثل القطارات. وهنا اضطرت تلك الدول إلى تسريع جذب الاستثمارات للقطاع الصناعي حتى تستطيع التوريد للمشاريع العملاقة للدولة. وهنا نقف أمام نموذج آخر لسياسات ترتبط ببعضها البعض، وكمثال ثالث يرتبط بتعقيد الأمر، فقد لجأت بعض الدول لتوجيه قطاع التعليم نحو التعليم الفني والمهني، وقننت التعليم الجامعي، عدا الهندسي، والابتعاث في تدخل مباشر نحو سياسة التعليم وارتباطها بسياسات أخرى. وهذا من التشدد أو التطرف في السياسات إذ يدافع البعض بأن العلم لا يرتبط بتوجهات سوق العمل. ونجد دولاً أخرى انتهجت سياسات توجيهية ترتبط بحوافز عند ربط السياسات التعليمية بالسياسات الأخرى.
اضافة لما ذكر، فإن الحواجز غير الجمركية تعتبر من السياسات التجارية المستخدمة لخدمة السياسات الصناعية. رصدت منظمة معنية بمتابعة مستجدات استخدام الحواجز غير الجمركية والتدخل في السياسات التجارية قرابة ٣٤ ألف حاجز غير جمركي تم استخدامها منذ عام ٢٠٠٩م وحتى عام ٢٠٢٢م بمتوسط سنوي يبلغ أكثر من ٢,٤٠٠ حاجز أو أداة غير جمركية تم استخدامها بغرض حماية الأسواق المحلية في جميع دول العالم. وقد ارتفع المتوسط السنوي لاستخدام هذه الادوات من ٢,١٧٠ اداة سنوياً للأعوام من ٢٠٠٩م وحتى عام ٢٠١٩م ليبلغ المتوسط السنوي لعامي ٢٠٢٢ و ٢٠٢٣م أكثر من ٣,٣٠٠ أداة تم استخدامها سنوياً بارتفاع بنسبة ٥٢٪. وبالرغم من أن هذا الرقم يعتبر كبيراً إذا ما قسمناه على دول العالم الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، إلا أن هذا الرقم هو للحواجز الغير جمركية والتي تم رصدها فقط، وهناك عدد اضافي غير مرصود. أما عن عام ٢٠٢٣م وحدة، فقد رصد البنك الدولي أكثر من ٢,٥٠٠ تدخل في السياسات التجارية حيث تدخل كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين بما لا يقل عن ٥٠٪ من هذا التدخلات، وحتى أحاول فهم الممارسات العالمية لدول العالم، فقد قمت بالبحث والقراءة في اقتصاديات التكتلات والدول المختلفة. ووجدت عدداً من النماذج التي تستحق التوقف عندها والتفكير فيها.
النموذج الشرق آسيوي:
من المعروف بأن دول شرق آسيا تتسم بالصرامة والشدة في تطبيق توجهاتها ومنها الاقتصادية. ولذا، ودون تمييز كبير بين دول شرق آسيا، فإن العامل المشترك بينها هو سن وتعديل السياسات التجارية والخدمية لخدمة القطاع الصناعي، وكمثال على ذلك، قامت الصين مؤخراً برفع الرسوم الجمركية على وارداتها من بعض منتجات البوليميرات حيث تعمل على تنمية قطاع صناعة البتروكيماويات نحو الاكتفاء الذاتي. كما تمتد السياسات الصينية لدعم القطاع الصناعي نحو عدم التشديد فيما يتصل بالجودة والنوعية، والصحة والسلامة والبيئة، وعمل المرأة. ولا يفوتنا أن نذكر الإرادة الصينية في النهوض بصناعة الحديد والصلب إذ أن الصين وضعت خطة للنهوض بهذا القطاع في ١٥ عام. وبالفعل، نهضت الصين حتى اصبحت تنتج ٥٠٪ من الانتاج العالمي للحديد والصلب. وبغض النظر عن مصدر الطاقة المستخدم للانتاج، أو ظروف وبيئة وأنظمة العمل في مصانع الصهر أو التشكيل، تقوم الصين بغزو الأسواق العالمية بمنتجاتها، وعلى الأسواق العالمية حماية اقتصادها الوطني.
أما المثال الآخر فهو نقلاً على ذمة خبير صناعي كوري إذ أشار إلى اقتصار كوريا الجنوبية على اقامة بعض مشاريعها الوطنية مثل مشروع النقل في السبعينيات على المنتجات الوطنية المستهدفة بالتصنيع محلياً. وقد أجلت أجزاء من المشروع حتى بدأ الانتاج الوطني بتلبية احتياجات المشروع. كما قامت بتقنين الالتحاق بالجامعات، في بعض التخصصات، وتوجيه الطلاب نحو التعليم الهندسي والفني والمهني. هذا ولكوريا أيضاً جدول جمركي ذو اسقف حمائية عالية. وبعد أن شكلت قاعدة منتجات صناعية عريضة تغزو بها أسواق العالم، سعت ولا تزال، لتنويع وزيادة محفظتها من اتفاقيات التجارة الحرة.
النموذج الأوروبي:
وكمثال على النموذج الأوروبي في سياسته التجارية، يتبنى الاتحاد الأوروبي مبدأ استنفاد الحقوق الوطني (الاقليمي) في العلامات التجارية. وبذلك، يمنع دخول الواردات ذات العلامات التجارية التي يتم تصنيعها داخل الاتحاد الأوروبي. بمعنى، في حالة أن العلامة التجارية (س) يتم انتاجها في الاتحاد الأوروبي، يتم منع دخول هذه العلامة من أي دولة أخرى من خارج الاتحاد وذلك دعماً للصناعة في الاتحاد وحفاظاً على تنافسيتها، إذ أن دخول ذات العلامة من دول أخرى يعني تباطوء أو توقف خط الانتاج المحلي عن العمل مما يعني خفض أو فقدان الوظائف والصادرات والاستثمارات وخفض المساهمة في الناتج المحلي، كما تبنى الاتحاد الأوروبي مؤخراً قانون سلاسل الإمداد (Supply Chain Act)، وبدأت المانيا بتطبيقه. يعنى هذا القانون بالزام المستورد أن يثبت بأن المنتج الذي تم استيراده يستوفي جميع معايير البيئة والصحة والسلامة وانظمة العمل وحقوق الانسان، ومنع تشغيل الأطفال، وعدالة الأجور إلى آخره على كامل سلسلة الإمداد الخاصة بالمنتج المستورد. وفي حالة عدم قدرة المستورد على اثبات ذلك تتخذ الاجراءات النظامية بحث المنتج المستورد ومنها المنع من دخول الأسواق، ونجد أن هذه أمثله لسياسات تجارية تخدم السياسات الصناعية للتكتل الاقتصادي الأوروبي. كيف لا، وهذه الاقتصادات تقوم على الصناعة وهي جزء من الدول العشرين الصناعية.
النموذج العربي غير الخليجي:
تختلف الدول العربية في توجهاتها الاقتصادية. لكن يكفينا أننا تعرفنا على كلمة (منتج مستورد) بعد زيارتنا لبعض الدول العربية إذ أن هذا المصطلح ليس متداولاً في المملكة أو دول الخليج. وتتفاوت الدول العربية في شدتها في تنفيذ سياساتها التجارية والخدمية ولكنها تحاول خدمة السياسة الصناعية لاحلال الواردات وزيادة الصادرات لايجاد الوظائف وجلب العملة الصعبة والاستثمارات. كما ابتكرت بعض الدول العربية مختلف أنواع الرسوم والضرائب على الواردات، وقسمتها إلى فئات، وعلى منتجات وقطاعات محددة بهدف حماية المنتج الوطني.
النموذج الخليجي:
من وجهة نظر صديقي الصناعي، النموذج الخليجي يحاول اعادة تعريف نفسه والتموضع في مكانٍ ما بين الصناعة والتجارة والخدمات إذ يجد تفاوتاً بين السياسات اعتماداً على التوجهات الاستراتيجية لكل دولة، بعض دول الخليج، ذات التوجهات التجارية، قامت بصياغة سياسات صناعية وخدمية تهدف لخدمة القطاع التجاري. نلاحظ ذلك من خلال التركيز على الأنشطة الصناعية البسيطة منخفضة التعقيد الاقتصادي مثل التعبئة والتغليف، والحشو والتفريغ، والتشكيل، ووضع اللواصق وبطاقات التعريف والأدلة مما يتضح معه التركيز على خدمة الشحنات العابرة واعادة التصدير. وهذه بلا شك خدمات صناعية مقدمة وداعمة للقطاع التجاري. اضافة لذلك، فإن سياسات الخدمات من أعمال لوجستية وبنية تحتية ومناطق خاصة وحرة واتفاقيات تجارية وسياسات مالية، يتم رسمها وتوجيهها لخدمة القطاع التجاري.
أما بالنسبة للمملكة، فمن وجهة نظر صديقنا الصناعي، ووفق رؤية المملكة ٢٠٣٠، فقد اعتمدت المملكة نهجاً لتنويع مصادر الدخل وخفض الاعتماد على مصدر دخل واحد. ومن المنظور الصناعي، فإن هذا يعني توطين الواردات وزيادة الصادرات، إذ لا يمكن تحسين ميزان المدفوعات بزيادة الواردات وخفض الصادرات. ولتحقيق المواءمة بين الصناعة والخدمات اللوجستية، فقد انبثق عن رؤية المملكة ٢٠٣٠ برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية والمعني بالربط بين ٤ قطاعات وهي الصناعة والتعدين والطاقة والخدمات اللوجستية. ثم تم تعزيز التوجه الصناعي للمملكة عبر انشاء الهيئة العامة للتجارة الخارجية للدفاع عن صادرات المملكة، ومكافحة الممارسات الضارة في التجارة الدولية، وفتح الاسواق الدولية للصادرات الوطنية. كما تم انشاء هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية واطلاق العديد من الأدوات المحفزة للتنمية الصناعية من خلال الهيئة. بالاضافة لذلك، فقد تم انشاء مرجعية صناعية تتمثل في وزارة الصناعة والثروة المعدنية، ثم اطلاق المركز الوطني للتنمية الصناعية، ثم اطلاق الاستراتيجية الوطنية الصناعية ومبادراتها وغيرها مما يتصل بدعم وتمكين التنمية الصناعية. ومن وجهة نظر صديقي الصناعي، فإنها مسألة وقت حتى تتم صياغة وبلورة السياسات التجارية والخدمية لتتكامل مع السياسة الصناعية مما يحقق مستهدفات الرؤية.
وأخيراً، برد العشاء في ليلة العيد وانا استمع لجدال الاصدقاء حول الموضوع. وبالتالي قررت بألا أجمعهم مرة أخرى على وليمة ويكفيهم فنجال شاي يتجادلون حوله، ولا حسافة إذا برد الشاي أثناء جدالهم.
إن أصبت فمن الله، وإن اخطأت فمن نفسي
ملاحظة: من باب الشفافية، لم يتم هذا النقاش مع اصدقاء، وإنما هو مشهد تخيلي لحوار بين اصدقاء مختلفين في الانشطة الاقتصادية.
خاص_الفابيتا
يقال كل صانع تاجر، وليس كل تاجر صانع. ولا أعتقد أنه يمكن صناعة كل شيء، وانما يتم صناعة ما له ميزة تنافسية، وبالتالي لابد من التجارة للمنتجات التي ليس لها ميزة تنافسية. وعند ابرام اتفاقات تجارة حرة يتم مراجعة التعرفة الجمركية للسلع لجميع دول الاتفاقية مع التدابير الأخرى غير التعريفية. وأرى أنه لا تقدم الصناعة على التجارة، ولا تقدم التجارة على الصناعة، وانما يسيران بخطين متوازيين.