لا نجاح من دون القليل (أو الكثير) من العشوائية

16/03/2010 4
محمد القويز

في الأسبوع الماضي سعدت باللقاء بالمفكر والكاتب «نسيم نكولاس طالب، مؤلف كتاب» مخدوع بالعشوائية Fooled by Randomness، وكتاب «البجعة السوداء Black Swan»، والخبير العالمي في علم الفرضيات والاحتمالات. وقد كان أكثر ما شدّني لحضور ندوته ولقراءة كتاباته هو نظرته لدور العشوائية في حياتنا جميعاً، سواء في الاستثمار أو غيره.

فإحدى نقاطه الرئيسية أن الشخص الذي يتمتع بقدر من الذكاء والجد والاجتهاد والابتعاد عن المخاطرة سيحقق حداً أدنى من النجاح باحتمالية عالية، ومثاله على ذلك هو طبيب الأسنان، أو غيرها من المهن التي يكون فيها الارتباط كبيراً بين مهارة المرء ومقدار نجاحه. أما أي نجاح أكبر من ذلك فهو وليد العشوائية أو الصدفة أو ما قد نسميه (التوافيق) في عرفنا الدارج، وبالرغم من أن الكثير من الناس يحاولون تفسير النجاح لهذا الشخص أو ذاك معددين الأسباب التي جعلت (فلانا) أو (علانا) شديد النجاح، إلا أن هذه التفسيرات لا تعدو كونها محاولات لتبرير العشوائية والصدفة بعد حدوثها.

ومثال المؤلف في هذا الصدد هو افتراضه لمسابقة عالمية لرمي القرش (العملة المعدنية وليس السمكة)، فكلنا يعلم أن الجهة التي يقع عليها القرش هي مسألة احتمال وليست مسألة قدرة (واحتمال الحصول على أي جهة لدى رمي القرش هو 50 في المائة) فلو افترضنا أن القاعدة في المسابقة أن الشخص الذي يحصل على جهة (الوجه) من القرش عندما يرميه يتأهل للدور التالي بينما الشخص الذي يحصل على جهة (الكتابة) يخرج من المسابقة، بحيث يستمر هذا المنوال حتى الوصول إلى فائز. ولو كان عدد المشاركين كبيراً بما فيه الكفاية فيمكننا في هذه الحالة تصور شخص يفوز في المسابقة برميه القرش على جهة (الوجه) 40 مرة متتالية. بالطبع بالرغم من أن فوز هذا الشخص هو مجرد مسألة احتمال أو حظ، إلا أن التغطية الإعلامية لهذا (البطل) الجديد لن تخلو من الاهتمام بشخصيته ومحاولة تفسير نجاحه (فتقول على سبيل المثال إنه يتدرب على رمي القرش ساعة كل يوم، أو أن إبهامه المفلطح يساعده على رمي القرش بالوجه الذي يشاؤه)، وغيرها من الفرضيات والأقاويل بمهارة هذا (البطل) الجديد، بالرغم من أن نجاحه في نهاية المطاف كان وليد الاحتمال والحظ بالشكل الأكبر.

نقطة المؤلف في هذا الصدد أن العديد من جوانب الحياة، خصوصاً تلك المبنية على قدر كبير من النجاح كالتجارة أو الاستثمار أو المناصب الكبيرة أو غيرها، تقترب من تلك المسابقة لرمي القرش، فهي تنطوي على قدر أكبر من العشوائية أو الحظ أو التوفيق (وبالرغم من أن الإعلام والرأي العام كثيراً ما يحاول تفسير الأمور بمجرد الإشارة للمهارة أو القدرة) لذا فما بوسع الشخص الذي يود تحقيق قدر كبير من النجاح إلا تعريض نفسه لقدر كبير من العشوائية أملاً بأن (تضرب معه) أحدها على سبيل الاحتمال. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار قائمة فوربس لأغنى 100 شخص في العالم بمثابة قائمة بأبطال مسابقة رمي القرش. لا يعني ذلك أن الناجحين لا مهارة أو جهد لهم، ولكن المهارة والمجهود وحدهما لا يمكنهما تحقيق شيء غير الحد الأدنى من النجاح (وتذكر طبيب الأسنان من ناحية وبطل العالم في رمي القرش من ناحية أخرى).

ومن هذا المنطلق أيضاً كتب مؤلف آخر «مايكل راينور مؤلف كتاب/ معضلة الاستراتيجية The Strategy Paradox» أن عكس النجاح ليس الفشل، إنما عكس النجاح هو الأداء العادي أو المتوسط إذ إن عديدا من القرارات التي سببت الكثير من النجاح للبعض هي القرارات ذاتها التي سببت الفشل لآخرين، ليس لسبب إلا لاختلاف الأقدار والاحتمالات. أما الذين يتجنبون هذه القرارات تماماً فإنهم يحكمون على أنفسهم بحياة من التوسّط، فلا احتمال للفشل ولكن لا مجال للنجاح أيضاً.

ومن العرض الوارد بعاليه أود أن أستخرج لأعزائي القراء الدروس التالية:

أولاً: لا تأخذ النجاح كوسيلة لقياس أدائك أو قيمتك في الحياة، فنجاح معظم الناس (خصوصاً النجاحات الكبيرة) هو وليد العشوائية أو الحظ أو التوفيق، أكثر منه نتيجة للمهارة أو الجهد.

ثانياً: كل ما يمكن المرء التحكم به هو تعريض نفسه لأكبر قدر من العشوائية بتكرار مستمر أملاً في تحقيق النجاح في إحدى هذه المرات، مع علمه بأن احتمال الفشل في كل حالة على حدة هو أقرب من النجاح، ولكن المرء يأمل أن تكرار المحاولة مرة تلو أخرى قد يؤدي لأن (تضرب معه) في إحدى هذه المرات. لكن لا بد في هذه الحالة من أن يكون المرء واعيا بمدى مخاطرة وعشوائية ما هو مقدم عليه ومتقبلاً لنتائجه، سواء كانت جيدة أو سيئة (والنتائج السيئة عادة ما تتكرر أكثر من النتائج الجيدة).

ثالثاً: إذا كان ليس بمقدور المرء تحمل عواقب الفشل، فلا بأس من أن يأخذ المنحى الأقل عشوائية، الذي يعتمد على قدر أكبر من المهارة والجهد من الحظ والمغامرة، مع علمه بأنه بذلك سيحقق الأمان ولكنه يتنازل عن احتمالية تحقيق أي نجاح كبير، لأن أي نجاح كبير لا بد أن ينطوي على قدر من المغامرة. ولا بأس أن ينحو الشخص هذا المنحى فيما يكفي حاجاته وحاجات أولاده الأساسية (كالمسكن والمأكل...إلخ) ويغامر فيما سواها.