يشير مفهوم النشر إلى عملية إتاحة المعلومات المتوافرة عبر وسائل مختلفة؛ مثل الكتب، والصحف، والمجلات، والتلفزيون، والإذاعة والإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها كافة ومسمياتها. وبهذا المعنى يُعَدُّ النشر جزءًا أساسيًا مما يعرف في أدبيات اقتصاديات المعرفة بدورة المعرفة، التي تتمحور حول ثلاث دورات أولها: دورة إيجاد المعرفة، يتلوها دورة نشر المعرفة، يتبعها دورة استخدام المعرفة، وهي المرحلة الأخيرة التي تكتمل فيها هذه الدورة. وغير خاف أن كل دورة من هذه الدورات المعرفية تُعَدُّ صناعة قائمة بذاتها غير أنها تتكامل وتتشابك مع بعض البعض، إن الكتاب باعتباره منتجاً معرفيّاً يعد أحد الأمثلة الحية على هذه الدورة المعرفية؛ فصناعة الكتاب تمر بأربع مراحل أساسية تشكل بمجموعها سوقاً اقتصادية من الأهمية بمكان دراسة خصائصها لفهم منظومة أعمالها والعوامل المؤثرة فيها وهي على النحو التالي: -
المرحلة الأولى: مرحلة التأليف وتبرز أهمية هذه المرحلة اقتصادياً في تحد يواجه المؤلف والناشر على حد سواء وهو اختيار فكرة الكتاب وموضوعه، ومن ثم تحديد عنوانه، وتحديد الجمهور المستهدف به. فعلى الرغم من أهمية الكتاب العلمية؛ فإن عدم دراسة العناصر السوقية له يجعل المؤلف والناشر في تحد حقيقي عند إرادة توزيعه.
المرحلة الثانية: خدمات ما قبل الطباعة وفيها تتم خدمة الكتاب، وتجويده بالتحكيم والمراجعة العلمية وفق شروط الناشر، وتعديل ما يجب تعديله أو تصحيحه، ومراجعة مقروئية النص، والتصحيح اللغوي بحسب لغة الكتاب. كما يتم في هذه المرحلة تصميم الغلاف الخارجي والخلفي للكتاب، والتحرير والإخراج الفني له، والتوثيق القانوني وحفظ حقوق الملكية الفكرية للنسخ الوقية والإلكترونية.
المرحلة الثالثة: خدمات الطباعة والتغليف والنشر الإلكتروني بأحد الصيغ المتاحة (ebub -PDF …..etc ) وغيرها من الصيغ الإلكترونية، وهذه هي المرحلة التي يظهر فيها الكتاب بشكله النهائي القابل للتسويق والإتاحة للمجتمع المعرفي بكل الوسائل والسبل المتاحة.
المرحلة الرابعة: خدمات ما بعد الطباعة والنشر الإلكتروني وهي التي تتمثل في خدمات التوزيع والدعاية والتسويق المبني على استراتيجية مناسبة للكتاب وجمهوره المستهدف، وفي هذه المرحلة أيضا يتم استثمار محتوى الكتاب استثمارا يعظم من عوائده المباشرة المتمثلة في بيع نسخه الورقية أو الإلكترونية عبر البحث عن مقدمي الجوائز في موضوع الكتاب أو البحث عن مجالات استثمار محتوياته (الترجمة – الصور – تحويل الكتاب إلى منتجات مرئية أو مسموعة ...الخ) بحسب طبيعة الكتاب.
لم تحظ اقتصاديات النشر للكتب بالاهتمام من قبل الباحثين فحتى الآن ما زالت الدراسات الأكاديمية التي تتناول سوق الكتاب والنشاط العلمي في النشر في بداياتها - ليس هذا في عالمنا العربي فحسب بل وفي أسواق البلدان المتقدمة - وربما يعود السبب في ذلك إلى أن النظرة الاستثمارية لدورة المعرفة لم تتشكل إلا مؤخرا، وذلك حين أصبح الاستثمار المعرفي صناعة مؤسسية تتطلب تضافر الجهود على المستويات كافة لتوفير المناخ الملائم لبناء مجتمع معلوماتيّ يشجّع على الابتكار، بل والإبداع، ودعم البحث والتطوير وإنتاج المعرفة المستدامة. كما أصبح النشر من بين أشياء أخرى أحد أهم المؤشرات التي تستخدم للدلالة على تحديد مستوى تطور الاقتصاد، وهو يقاس عادة بنسبة المحتوى المعرفي إلى منظومة الخدمات والسلع، ومعدل تجارة المعرفة في الميزان التجاريّ للدولة، وعدد حقوق الملكيّة الفكريّة، وبراءات الاختراع. ومعدّل الإنفاق من الناتج المحليّ الإجماليّ على التطوير والبحث.
في عالم صناعة الكتاب المعاصر أصبح الكتاب سلعة اقتصادية تخضع للتقييم الاقتصادي والسوقي بالتوازي مع القيمة العلمية والثقافية لموضوعه، ومن هنا أصبحت دور النشر تدرس بعناية العوامل التي يمكن أن تؤثر في الطلب على الكتاب قبل الإقدام على تبني نشره، ويمكن في هذا الصدد تقسيم تلك العوامل المؤثرة في نشر الكتاب إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية (انظر الشكل المرفق). فالعوامل الخارجية - ونعني بها القوى التي يمكن أن تؤدي دوراً في تغيير حجم الطلب على الكتاب، ولا يملك الناشر القدرة على التأثير فيها خلال مدة سريان الحقوق لدار النشر - من مثل الحالة العامة للاقتصاد، فإذا كان الاقتصاد في حالة انتعاش فإن ذلك من شأنه زيادة الطلب على السلع والخدمات بمقادير مختلفة - ومن ضمنها الطلب على الكتاب.
وهناك عامل خارجي آخر يتمثل في الحالة العامة للثقافة والتعليم، فكلما كان المجتمع يتمتع بنسب أقل من الأمية وقدر عال من التقدير للعلم والثقافة ودورها في تقدم المجتمع؛ فإن ذلك من شأنه زيادة الطلب على الكتاب باعتباره مصدراً من مصادر التعلم الموثوقة، كما أن من شأن القرارات التي تتخذها الدولة أو منظماتها أيضاً التأثير في الطلب كارتفاع الضرائب وقوانين حماية الملكية الفكرية، وارتفاع سعر الفائدة أو انخفاضه باعتبارها تكلفة التمويل للمستلزمات الإنتاجية لنشر الكتب، ويضاف إلى ذلك عوامل أخرى لا تتمكن دور النشر من السيطرة عليها أو التحكم فيها؛ مثل الإقبال على القراءة ونوعها، وسمعة المؤلف، والكتب والعناوين المنافسة للكتاب، وكلفة السلع المنافسة والمكملة والبديلة للكتاب، ومدى توافرها. ونعني بالعوامل مجموعة القرارات التي تُتخذ من قبل دور النشر التي من شأنها التأثير في الطلب، ومن تلك العوامل الداخلية عنوان الكتاب، وموضوعه، وتصميم غلافه، والخدمات الملحقة به، وجودة المواد المستخدمة في الطباعة، بالإضافة إلى أسعار الكتب، وحملات الدعاية والإعلان، وطرائق وصول الكتاب وتكلفتها، وكذا حوافز البائعين، والانتشار الجغرافي لشبكات التوزيع... إلخ.
أما سوق صناعة الكتاب في المملكة العربية السعودية، فإنه يصعب على وجه الدقة تحديد حجمها نظراً لعدم وجود إحصاءات دقيقة ومفصلة عن هذه السوق، وتضارب الموجود منها، وعلى الرغم من ذلك فإن المملكة العربية السعودية تُعَدُّ أحد أقطاب النشر في منطقة الخليج العربي والعالم العربي بشكل عام حيث يتجاوز حجم هذه السوق - بما في ذلك قطاع الطباعة - وفقاً لأكثر التقديرات تحفظاً 10 مليارات ريال منها 4.5 مليارات في قطاع النشر وحده، وتعمل في هذه السوق نحو 500 دار نشر سعودية، و4509 موظفين. كما تحتل المملكة المرتبة الأولى في تسويق الكتب في منطقة الشرق الأوسط؛ ولذا نجد كبريات دور النشر العالمية والعربية تحرص على دخول السوق السعودية لتسويق مؤلفاتها ومصنفاتها، إذ يعد القارئ السعودي من أعلى القراء شراء للكتب بحسب تصريح رئيس اتحاد الناشرين السعوديين ورئيس جمعية الناشرين السعوديين.
كما بلغت حصيلة الإنتاج الفكري السعودي الموثقة خلال عام 2022، حوالي 7140 مصدراً معرفياً، بحسب التقرير الإحصائي الذي أصدرته مكتبة الملك فهد الوطنية الذي رصدت من خلاله إنتاج 10 أشهر، بدأت من 1 يناير إلى 31 أكتوبر 2022. ووفق هذا التقرير، بلغت أوعية المعلومات التي منحت الرقم الدولي المعياري 7140 وعاءً معلوماتياً، منها 6067 كتاباً ورقياً، و617 كتاباً إلكترونياً، و410 عناوين لكتيبات، و6 خرائط، و40 مجلة. فيما بلغ عدد شهادات الإيداع التي صدرت للكتب والمنشورات 7373 شهادة إيداع، منها 3153 للكتب، و3633 رسالة جامعية، و134 كتيبًا، و69 مطبوعة دورية، و351 مادة إلكترونية، و14 مفكرة، و6 مواد فنية، ومطويتان، و6 بطاقات.
وتواجه سوق صناعة الكتاب السعودي والخدمات اللوجستية المساندة لها تحديات تحد من استغلال مواردها بما تستحقه، ومن الأهمية بمكان مواجهتها بما يسهم في زيادة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي السعودي خدمة لتنويع الهيكل الاقتصادي كأحد مستهدفات رؤية المملكة 2030 ومن بين أهم هذه التحديات: -
1- افتقار السوق إلى البيانات التفصيلية والمستدامة حول عناوين الإصدارات ومجالاتها، وحجم المبيعات؛ مما يجعل اختيار فكرة الكتاب وموضوعه يخضع لتقديرات المؤلفين دون معرفة حقيقية بظروف سوق الكتاب.
2- تطبيق مبدأ الرقابة القبلية على المحتوى للكتاب؛ مما يعزز من التسرب في قطاع النشر المحلي إلى السوق الخارجية.
3- حجم عدد النسخ المطبوعة من الكتب المنشورة تتراوح غالباً بين 500-1000 نسخة إلا في بعض العناوين الاستثنائية، إما لسمعة الكاتب، أو طبيعة الكتاب (الكتب المدرسية)؛ مما يرفع تكاليف الطباعة بما لايقل عن 25% تقريباً.
4- الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية للمؤلف والناشر؛ مما يتسبب في خسائر فادحة لدور النشر وتؤثر بشكل مباشر في تقليص إصدارات دور النشر من العناوين ومن النسخ المطبوعة منها.
5- تكاليف التوزيع الباهظة التي تصل إلى نسبة 60% من سعر البيع المعلن للكتاب.
ولمواجهة هذه التحديات يتطلب الأمر تضافر الجهود من المهتمين بقطاع النشر في القطاع العام والخاص، وعلى رأسهم وزارة الثقافة والهيئات التابعة لها، وخاصة منها هيئة الأدب والنشر والترجمة للعمل على توفير قاعدة معلومات لسوق الكتاب السعودي تضم معلومات تمكن سوق صناعة الكتاب من بناء إستراتيجيات نشر تتسم بالكفاءة والمرونة، والتنبؤ بسلوكها والتكيف مع أوضاعها. كما أن تطبيق مبدأ الرقابة البعدية على المحتوى أسوة بوسائل النشر الأخرى سيعمل على الحد من التسرب في قطاع النشر للناشرين إلى دول مجاورة. كما أن إعفاء مبيعات الكتب من الضريبة سيكون محفزاً وداعماً لتعميق الطلب على الكتاب بأنواعه المختلفة. وأخيراً فإن التعامل الحازم مع قرصنة الكتاب، وتطبيق قوانين وتشريعات لحماية حقوق الملكية الفكرية، والتوعية بها لشرائح المجتمع، وبيان فوائدها على نمو القطاع وتطويره وتعميقه يُعَدُّ ضرورة ملحة لأطراف صناعة الكتاب من جهة، ومن جهة أخرى يدعم الإبداع والابتكار في هذا القطاع على المدى الطويل.
وفي الختام يحسن التنويه بأن التطور الرقمي في قطاع النشر، وإن كان يشكل تحديًا كبيرًا لصناعة الكتابة والنشر الورقية، لكنه يفتح في الوقت نفسه أبوابًا جديدة للإبداع والتجديد. ومن المهم أن يتم الاستفادة من الفرص الجديدة التي يوفرها العصر الرقمي، وعدم اعتباره بديلا عن الكتاب التقليدي، فالدراسات التي تناولت هذا الموضوع أثبتت أن الكثير من القراء لا يرغبون في التخلي عن تجربة قراءة الكتاب بشكله التقليدي، ومن التجارب الحميدة والمبتكرة التي قام بها بعض الناشرين دمج التقنية الحديثة مع الكتب التقليدية، كإضافة رموز QR على الصفحات الورقية للكتب الورقية؛ لتوفير معلومات إضافية وتفاصيل مهمة حول الموضوعات التي يتناولها الكتاب.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد رمضان 1445 هـ / مارس 2024
مقال جميل جدا ويوثق حقبة زمنية مع تطور عصري متسارع ولكن يادكتور في عالمنا العربي لازلنا نعاني من الأمية والجهل منذ بداية تأليف الكتب لعصر السوشيل ميديا فأتذكر احصائية لمعدل القراءة والتأليف في العالم العربي نسبة لا تذكر وحتى اليوم في عصر السوشيل ميديا النجومية والمشاهير هم الذين محتواهم ( تافه ) ولا يقدم ولو ١٪ شيئا مفيدا رغم أننا ( أمة اقرأ ) التي لا تقرأ وفقك الله عز وجل