مبنى من ثلاثة طوابق، الطابق الأول مكون من عديد من الغرف التي تتداخل فيما بينها، والأبواب بين الغرف يمكن فتحها وإغلاقها، وهناك بعض الجدران التي يمكن إزالتها، وفي الطابق الثاني عديد من الغرف الإضافية، لكنها لا تتداخل فيما بينها كما هي الحال في الطابق الأول، ولا الجدران تتحرك أيضا، بل هي غرف منفصلة تماما، ولكن تتميز بأنها لا أبواب لها ولا لون، فهي تشبه بعضها بشكل لافت، ولن تميز الغرفة التي تريد إلا إذا دخلتها فعلا، أما الطابق الثالث فلا يوجد فيه غير غرفة واحدة فقط، وهي مغلقة، هكذا يمكنني وصف الحوكمة في أي جهة، فبينما تجد الخط الأول يشكل إدارات تنفيذية بحتة، فهي متداخلة بشكل صارخ، الجميع يعمل تحت توجيهات التنفيذيين مباشرة، ما يريده التنفيذي يجب أن تحققه هذه الإدارات، ولكي تتضح الصورة أكبر فإنك لو تصورت مبنى من طابق واحد، أي فقط من إدارات تنفيذية، دورها مقابلة العملاء مباشرة والتعامل معهم كمؤسسة فردية، فإن كل شيء تحت إرادة التنفيذي صاحب المؤسسة، هذا ما أعنيه بأنها متداخلة والأبواب يمكن فتحها، والجدران يمكن إزالتها، والمسألة تعود إلى صاحب الحلال، وإلى رغبته في الإنفاق على نظام الرقابة الداخلية عند هذا المستوى.
قد تتم إضافة بعض الإدارات ذات الجدران التي لا يمكن إزالتها مثل المحاسبة، والموارد البشرية، وقد يكتفي صاحب المؤسسة بنفسه. لا شك أن قيمة مثل هذا المبنى ستختلف عن المبنى الآخر الذي يتكون من طابقين، فعندما تتضخم قيمة المبنى تتضخم مبانيه أيضا، وهنا لا بد من إدارات منفصلة عن الإدارات التنفيذية (مستقلة) التي في الطابق الأول، دورها رسم السياسات، وبناء الإجراءات والتخطيط للمستقبل ومراقبة جودة "المنتج"، هذه الإدارات ليست مستقلة عن بعضها بعضا، بمعنى أنك قد تجد الجدران الصلبة فلا يمكن لإدارة أن تقوم بعمل الأخرى، ولكن لا توجد أبواب على الغرف، فالاستقلال (هش)، والتداخل بين الإدارات وارد، وقد لا تعرف أي غرفة تتعامل معها حتى تدخلها، ولهذا كثيرا ما يأتي التساؤل عن هذه الإدارات ومدى تشابهها، بل مدى التشابه في مخرجاتها، هذه الإدارات تشمل إدارة الجودة، والتميز المؤسسي والأمن السيبراني، والمحفوظات، والالتزام والشؤون القانونية، وإدارة المخاطر، (والحوكمة)، جميعها تتداخل فيما بينها في نقاط معينة، وقد تكتشف (كموظف) أن الأسئلة والاستفسارات متقاربة، ولن تفهم الفرق ما لم تجلس مع هذه الإدارات لتفهم السبب. في الطابق الثالث، تأتي الغرفة الغامضة المغلقة، غرفة المراجعة الداخلية، وهي كما قلت لكم تقع في طابق مستقل تماما، لا أحد بجوارها، ولا تتداخل أبوابها مع غيرها، دورها هو تقييم كل نظام الرقابة الداخلية، (كل المبنى) لذلك يجب أن تراه هذه الإدارة بشكل منفرد، ومستقل عن تأثير الباقين.
لمن أراد فهم الفرق بين المراجعة الداخلية وبين الالتزام والجودة، فإن النظر إلى مثل هذا المبنى يعطي صورة واضحة، فالمراجعة الداخلية يجب أن تتمتع باستقلال "ظاهري" واضح، وأن يخضع نظام الرقابة الداخلية من أوله حتى آخره "للتقييم" (بكافة إداراته) بشأن "كفاءته وفعاليته"، وإذا كانت إدارة الالتزام تهتم بمدى الالتزام بالسياسات والتعليمات والأنظمة والعقود وغيرها من فروع الامتثال، فإن المراجعة الداخلية تهتم بمدى فاعلية هذه "الإدارة" ومدى "كفاءتها" ومدى فعالية وكفاءة "وظيفة الالتزام في المؤسسة"، وهكذا بالنسبة إلى الجودة، والمخاطر، (والحوكمة إن وجدت)، وقد يقول قائل فمن يحكم على كفاءة وفعالية المراجعة الداخلية؟ نقول إن ذلك يعود إلى المهنيين المماثلين وتقييم النظير، فلا يجوز البتة أن تخضع المراجعة الداخلية لفحص الجودة ولا شهاداتها، ولا يجوز أن تتطفل المخاطر عليها ولا الالتزام ولا (الحوكمة إن وجدت).
نقلا عن الاقتصادية