لا للسعودة

06/12/2023 5
د. إبراهيم بن محمود بابللي

رأس معالي الشيخ محمد الحركان – رحمه الله – وفدا من رابطة العالم الإسلامي للمشاركة في مؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقد في "معهد القانون المقارن" في إحدى الدول الصناعية الكبرى في الأسبوع الثالث من شهر رجب عام 1397هـ. ضمّ الوفدُ الذي شُكِّلَ بأمرٍ من الملك خالد بن عبد العزيز – رحمه الله – عددا من مفكري العالم الإسلامي، منهم دولة الدكتور معروف الدواليبي (رئيس وزراء الجمهورية العربية السورية السابق) والدكتور توفيق الشاوي (أستاذ القانون والفقه المقارن في جامعة الملك عبد العزيز بجدة وعضو المجلس الأعلى لجامعة الملك سعود سابقا) وفضيلة الشيخ مصطفى الزرقا (الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية في دورتها الأولى)، ووالدي الدكتور محمود بابللي – رحمهم الله جميعا، كنّا في مُصطافِنا السنوي عندما عاد والدي – رحمه الله – من زيارته تلك بعدما ألقى محاضرة بعنوان "الشريعة والتجارة،" وأذكر أن عمّايَ – رحمهما الله – سألاه عن انطباعِه عن تلك الدولة، فأجاب مُسهِبا في الوصف الشائقِ عن تجربته والحفاوة التي قوبِلَ، والوفدُ، بها. ولكن علِقَتْ في ذهني جملةٌ قالها: "كان هدفُهُمْ من استضافة المؤتمر فتح أسواق جديدة في الدول الإسلامية، والعربية منها على وجه الخصوص."

تصَرَّمتِ السنون وكبِرَ الصغير. وبعد أربعين سنة من مشاركة والدي – رحمه الله – في ذاك المؤتمر، اجتمعت بوفد من تِلك الدولةِ في محاولة منهم إقناعي دعم طلبِهِم تأسيس فرعٍ لإحدى شركاتهم الكبرى في منطقة الرياض، تكون منصة لوصولها إلى أسواق الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا، كنتُ وقتها وكيلَ وزارةِ الاقتصادِ والتخطيطِ للتنمية القطاعية، وكنا قد نجحنا في دعمِ حصول رجال وسيدات أعمال تلك الدولة على تأشيرة دخول متعددة للمملكة مدَّتُها سنة كاملة، وكان لي دورٌ في ذلك النجاح، رأس الوفدَ رجلٌ تجاوز السبعين، وقورٌ حسنُ المظهرِ. كان في فترة سابقة الرئيسَ المشاركَ لمجلس الأعمال السعودي – الـ....، وأحسبُ أن قومه توسّموا فيه القدرة على إقناعي، فأسندوا إليه مَهَمَّةَ رئاسة الوفد، بعد استهلالٍ قصير تحدث الشيخُ الوقورُ فيه عن رغبتهم في التعاون مع المملكة من أجل تحقيق رؤية 2030، بدأ – من خلال مترجِمٍ أتى معه – يعدد حسنات تأسيس فرع الشركة في المملكة والأهمية الاقتصادية المتوقعة، خاصة وأن الشركة تنشط في قطاع اللوجستية، وهو القطاع الممكّن لجُلِّ القطاعات الاقتصادية الأخرى. رَحّبتُ بالضيف وبالوفد الزائر، وشكرتهم على حسن الضيافة إبان زيارتي لبلدهم قبل أسابيع، ووافقتُهُ على أهمية قطاع اللوجستية اقتصاديا وتمكينيّا للقطاعات المستهدفة في رؤية 2030.

تسلَّمَ الضيف دَفَّة الحديث وأسهب – من خلال المترجم – في شرح أهمية إعفاء الشركة من شروط السعودة، وكيف أن السعودة سوف تعرقِلُ فرص نجاح الشركة في المملكة، وأن حصولهم على هذا الإعفاء شرطٌ لدخولهم السوق السعودية. استمعت لحديث الضيف ولتُرجُمانِه خمس عشرة دقيقة، وعندما جاء دوري ذكرتُ له أن موضوع السعودة هامٌ جدا واستراتيجي، وأن نقل المعرفة من خلال مشاركة السعوديين وتعلُّمِهِم من خبراء وموظفي الشركة أمرٌ لا يمكُنُ التنازل عنه، ألقى بعدها الضيفُ محاضرة مدتُها، مع الترجمة، نصف ساعة كاملة، عن أهمية الاستماع لنصائحهِ وضرورة تحقيق مطالبِ الشرِكة، وأن إلغاء شروط السعودة (وليس تأخير تطبيقها فترة محددة من الزمن) هو في مصلَحتِنا، حتى وإن كنا غير مدركين لذلك. سألتُهُ، عندما انتهى، إن كانت الشركة ستقتصر في التوظيف على مواطني دولتِهِ في فرعِها في المملكة، فكان الجواب، عن طريق ترجمانه، بالنفي. سألتُهُ، وكان حديثي وكذلك الترجمان باللغة الإنجليزية، إن كان يُسمَحُ لي تأسيس شركةٍ في عاصِمتِهِ وتوظيف عمالةٍ رخيصة من غير مواطنيه، فأجاب، دون انتظار الترجمة: "لا."

ثم نهض غاضبا، وغادر الاجتماع، ولحقه زملاؤه. حاولتُ إقناع نظيري في وفدهم بأنني لم أقصد الإساءة، ولكن لم أنجح، وأصر الشيخُ الوقورُ على المغادرة، وصحبه زملاؤه، وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، لم تأتِ تلك الشركة ولم تفتح فرعا لها في المملكة، ولكن جاء غيرها من دول أخرى، انتقل عملي للقطاع الخاص بعد ذلك الاجتماع بأشهر قليلة، وتقدمت لسفارة ذلك البلد طالبا تأشيرة زيارة، بناء على دعوة من إحدى شركاتهم الكبرى في قطاع المياه، فحصلت على تأشيرة دخول لمرة واحدة مدتها خمسة عشر يوما، تبسّمتُ ضاحكا ولم أسافر، فكرت كثيرا في ما حصل يومها، وراجعت نفسي سائلا إياها: هل كنت مخطئا في ردي على ذلك الشيخ الوقور؟

=======================

الدروس المستفادة:

· إن وراء الأكمة ما وراءها، فانتبه يا رعاك الله

· لن ينصَحَك من كانت مصلَحَتُهُ عند غيرك. "لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا"

· استمع منصتا في مثل هذه الحوارات، و "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

· رحم الله الأمير سعود الفيصل إذ قال: "نحن العرب، نحن في المملكة العربية السعودية لا ننكث بالوعد.. كما لا نرتضي الوعيد"

 

 

 

 

خاص_الفابيتا