كنّا في ضيافة أخي وصديقي حسام، في البيت الذي كان يقتسمه مع عدد من طلاب الجامعة التي كنا ندرس فيها. وكان الوقتُ عصرا واليومُ سبْتًا والطقس باردًا، والحضور أربعة: أحمد وأخوه، وحسام وأنا. كان حديثنا حديثَ شبابٍ لا يحملون من همّ الدنيا شيئا سوى الاجتهاد في الدراسة، إذ كنّا وقتها في الفصل الأول من مرحلة الماجستير، تشعّب الحديث، بانتظار طعام العشاء، فوصل إلى موضوع السيارات، وكان الأخوان قد اشتريا سيارتين جديدتين: آودي كوبيه كواترو لأحمد، وآودي 80 لأخيه. من نافلة القول إننا كنا أكثر اهتماما بسيارة أحمد من سيارة أخيه، فأخذنا نسأله عنها وعن مزاياها، فأجاب بلطفه المعهود عن كل الأسئلة. أحد الأسئلة كان عن حجم المحرك، فقال: خمس أسطوانات بحجم 2.2 ليتر وقوة 135 حصان، لم أصدق ما سمعته أذناي، فقلت: مستحيل. استوضح أحمد ما قصدته فقلت: يستحيل أن يكون عدد الأسطوانات في محرّك السيارة فرديا. يجب أن يكون العدد زوجيا، وإلا اختلّ توازن المحرك أثناء حركة الأسطوانات صعودا ونزولا تبعا لاحتراق مزيج الوقود فيها، ابتسم أحمد ولم يردّ. شعرت بالانتصار وقتها، مع استغرابي الشديد: كيف يمكن أن يغفل أحمد عن أمر بديهي مثل ضرورة أن يكون عدد أسطوانات المحرك زوجيا، وكيف يجهل عدد أسطوانات المحرك في سيارته.
استرجعت وقتها تفاصيل محركات الاحتراق الداخلي التي درستها في مادة تحمل الاسم نفسه في السنة الأخيرة من دراستي للبكالوريوس. أستاذنا الدكتور السيد مهدي – رحمه الله – الذي علّمنا تفاصيل محركات الاحتراق الداخلي، أخبرنا أن المحرك الوحيد المختلف تماما عن محركات الاحتراق الداخلي الترددية (وكلها كان عدد اسطواناتها زوجيا)، الذي وصل إلى مرحلة الإنتاج والاستخدام الواسع في السيارات، كان محرك فانكل (Waknel engine) الذي استُخدِمَ تجاريا أول مرة في سيارة NSU Ro 80 ثم في سيارات مازدا ا لرياضية من نوع RX، وكم كنت مخطئا، عَلِمتُ بعدها بسنوات طويلة، من خلال قراءتي في الإنترنت، أن أحمد كان محقا. كان محرك سيارته فعلا ذا أسطوانات خمسة. ليس هذا فقط، بل علمت أن عددا غير قليل من شركات السيارات العالمية أنتجت محركات فيها أسطوانة واحدة، وثلاث، وخمس.
شركة لانسيا الإيطالية كانت أول من استخدم محركات ديزل ذات أسطوانات خمس في الشاحنات الثقيلة في الثلاثينات من القرن الماضي، أما أول من صمم محركا يعمل بالبنزين ذا أسطوانات خمس فكان هنري فورد، ولكنه لم يستخدم تجاريا في السيارات التي أنتجها. ثم تبعتهم شركة مرسيدس فأنتجت محرك ديزل ذا خمس أسطوانات عام 1974، ثم آودي وفوكس فاجن في ألمانيا، وكذلك فولفو السويدية، وفورد وجنرال موتورز وجيب في أمريكا، وفيات ولانسيا وألفا روميو في إيطاليا، وهوندا اليابانية، ولاند روفر الإنجليزية.
الهدف الرئيس من صنع محرك ذي أسطوانات خمس كان زيادة قوة المحرك فوق ما ينتجه محرك ذو أسطوانات أربع، مع شغل حيّز أصغر من المحرك ذي الأسطوانات الست. التحدي الأبرز الذي واجهته المحركات ذات الأسطوانات الخمس كان زيادة الاهتزاز (Vibrations) الناتج عن عدم التماثل الكامل (Asymmetrical configuration) لهذا المحرك خاصة في الحركة الترددية لرأس الأسطوانات صعودا ونزولا، وكان هذا هو السبب في توقف الشركات عن تطوير واستخدام محركات الأسطوانات الخمس، مع بقاء شركة آودي فقط مستخدمة لهذا النوع من المحركات حتى الآن.
===============
الدروس المستفادة:
· إن أهم درس تعلمتُه من هذا الموقف كان: "وأعرض عن الجاهلين". كنتُ جاهلا وأعرض عنّي أحمد، تجنبا لتصعيد محتمل. وهذا ما فعله سالم بن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهم – عندما نبه أصحاب عيرٍ مُعَلّقٌ في رقابها جرس أن هذا منهي عنه، فقالوا: نحن أعلم بهذا منك، إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال: (وأعرض عن الجاهلين).
· يستحيل أن يكون الواحدُ منّا مُلِما بكل صغيرة وكبيرة، خاصة مع تشعب العلوم وكثرتها وسرعة تغير المعطيات فيها.
· إن سمعنا معلومة نعتقدها غير صحيحة ويرى قائلُها صِحّتَها، فمن الواجب التأكد من صحة المعلومة قبل تخطِئة المتحدث، وهذا في أيامنا أصبح قريب المنال.
· احترام حديث الآخر ورأيه، مطلقا.
· من رأى ليس كمن سمِعْ.
* تُنسبُ هذه المقولة لأبي عبد الله، علاء الدين، مغلطاي بن قليج الحنفي المصري. كان مؤرخا ومن حفاظ الحديث، عارفا بالأنساب، تزيد تصانيفه عن المائة (الموسوعة الحديثية).
خاص_الفابيتا
جميل جداً التشبيه والمثال السابق والاجمل منه هو الاعتراف بالخطأ وان هناك من هو أعلم منا بما ينفعه اذا لم يعارض الدين وهناك أكثر من حالة مشى فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتراجع عنها عندما تبين له خطأئه في حكمه نتيجة اعتراض أصحاب الشأن وتوضيح ذلك لعمر ومنها أمر تحديد المهر والذي اعترضت عليه أمرأة
شكرا لمروركم وتعليقكم أيها الكريم
مقال جميل
شكرا لكريم لطفكم
مقالك هذا ممتاز فعلا تأكد من كلام الناس وانتبه بعضهم حتى لو سمعوك وأنت تقابلهم وجها لوجه سيفهمونك خطأ