ليس سرّاً ذلك الاستنفار الذي تعيشه اليوم المؤسسات المالية والجهات الحكومية الإشرافية حول العالم في مواجهة عمليات الاحتيال المالي، وما تطلقه من صيحات متوالية للتصدّي لأساليب الاحتيال الناشئة، والتي تتربّص للإيقاع بالمزيد من الضحايا وتحقيق المكاسب المالية غير المشروعة، فمع تسارع التقنيات، وتلاحق الابتكارات، والتي من دون شك أسهمت في خلق مفاهيم غير مسبوقة من الخدمات والتعاملات المالية قائمة على السرعة الفائقة والمرونة والسهولة، إلا أن التطور التقني بالمقابل انعكس في مسار آخر على تطور في عمليات التحايل المالي، ونشوء أساليب مستحدثة لم تكن معروفة من قبل، ما يفسر الجهود التوعوية المتنامية من قبل مزودي الخدمات المالية والمصرفية والجهات الإشرافية لمواجهة تلك الأساليب، حفاظًا على سلامة بيئات التعاملات المالية، وصونًا لحقوق العملاء، وإذا كنا في مواجهة حقيقة أن أساليب الاحتيال متجددة وقابلة للتغير يومًا بعد يوم، لا سيما في ظل ما تتيحه حلول التقنية الذكية اليوم من منافذ بديلة أمام المحتالين للإيقاع بضحاياهم، إلا أن الحقيقة الثابتة وغير القابلة للتغير تكمن في أن "الوعي" هو خط الدفاع الأول والأخير في معركة التصدّي لعمليات الاحتيال المالي، وأن "العميل" هو من يمتلك صلاحية منح بطاقة العبور للمحتالين لإيقاعه في براثن غاياتهم.
وتتضح هذه الحقيقة إذا ما تتبعنا بعمق جوهر الرسائل التوعوية التي تطلقها الجهات المعنية حول العالم في مواجهة الخطر المشترك. فكما تتفق تلك الجهات على تعريف "الاحتيال المالي" بأنه: الاستيلاء على مال الغير دون حق بارتكاب فعل أو أكثر ينطوي على استخدام أي من طريق الاحتيال، بما فيها الكذب أو الخداع أو الإيهام، فإنها جميعها تتفق كذلك على أن "وعي العميل" ويقظته يمثلان الدرع الآمنة له من أي محاولة تصب في هذا الاتجاه، مع التركيز دومًا على أن إفشاء البيانات الشخصية والمصرفية والتهاون في تداولها بيت القصيد ونقطة الصلة التي تجمع بين أغلب أساليب الاحتيال المالي وأشكاله، فاندفاع البعض للربح السريع، والتوهم بفرصة تحقيق الثراء الفوري، والرغبة في الفوز بالجوائز، مع فطرة الإنسان الطبيعية بالثقة بالآخرين، تمثل فيما بينها احتياجات وخصائص نفسية يلجأ إليها المحتالون للإيقاع بضحاياهم، يضاف إلى ذلك التجاوب دون تحقق مع الرسائل الإلكترونية وروابط المواقع الوهمية والمزيفة، وتجاهل تعليمات استخدام القنوات الرقمية المصرفية، وغير ذلك من السلوكيات المبنية على التهاون وعدم الاكتراث، والتي تشرع أبوابًا واسعة أمام "العملاء" للوقوع بالمصيدة بأنفسهم، وإنجاح خطط المحتالين وتحقيق مرادهم.
بكل تأكيد فإن التلويح المستمر بخطر تنامي عمليات الاحتيال المالي، والتنبيهات المتعالية إلى ضرورة توخي الحذر من أساليب الاحتيال المستجدة، لا يعني بأي شكل من الأشكال ثني "العملاء" والجمهور عن تقليل الاعتماد على التعاملات المالية عبر القنوات الرقمية، بل على العكس تمامًا، إذ إن المصرفية الرقمية باتت تمثل اليوم واقعًا لا يمكن التراجع عنه أو العزوف عن الاستعانة بها، نظرا لما تتيحه من آفاق رحبة من الراحة والسهولة والمرونة المدعومة بأقصى معايير الحماية والأمان. وما زال المستقبل يبشّر بالمزيد من الحلول القائمة على مبتكرات التقنية كالذكاء الاصطناعي والروبوتات. فالإحصاءات تشير اليوم إلى أن نحو 99% من العمليات المالية والمصرفية يمكن تنفيذها من خلال القنوات المصرفية الرقمية البديلة، يضاف إلى ذلك الاعتماد المتزايد على عمليات الدفع والشراء الإلكتروني مقابل تراجع الاعتماد على تعاملات الأوراق النقدية، وفي المملكة، لا يمكن تجاهل الخطوات السبّاقة التي قطعتها الجهات الحكومية والمؤسسات المصرفية السعودية في سبيل تعزيز بيئة التعاملات المالية، لتكون من بين الأقل تسجيلًا لعمليات الاحتيال المالي على المستوى العالمي، مع التطور النوعي والمتسارع للمصرفية الرقمية الآمنة.
خلاصة القول، إن الاستفادة القصوى من التقنيات لتلبية الاحتياجات المالية والمصرفية، تستدعي مواكبتها بالوعي اللازم الذي يقي من الاستخدام السلبي والأغراض غير السليمة لتلك التقنيات، وسيبقى الوعي حجز الزاوية في تفويت الفرص أمام المحتالين وتبديد غاياتهم، وحتى لا تكون "أنت" أول من يحتال على نفسه!
المقالة منشورة في المجلة المالية التي يصدرها مركز التواصل والمعرفة المالية (متمم) العدد الخامس، أكتوبر 2023م
خاص_الفابيتا