تحولات إيجابية لسوق الإسكان في الأجل الطويل

08/11/2023 4
عبد الحميد العمري

تقلصت بشكل أكبر القدرة الشرائية لدى المستهلكين الباحثين عن تملك السكن، محليا وعلى مستوى أغلب الاقتصادات حول العالم، متأثرة تلك القدرة في العموم على مستوى أغلب أسواق الإسكان في العالم بالارتفاع المطرد لمعدل الفائدة -الرهن العقاري-، كنتيجة مرتبطة بزيادة تشديد السياسة النقدية للبنوك المركزية في العالم، التي أخذت على عاتقها نهجا صارما لمواجهة ارتفاع معدل التضخم، كان من أهم أدواته رفع معدل الفائدة بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بدأ ذلك النهج المتشدد نقديا مع نهاية الربع الأول من العام الماضي، واستمر طوال الفترة التي تلته حتى الفترة الراهنة، ويتوقع استمراره فترة قد تمتد إلى عدة أعوام مقبلة، حتى تتأكد البنوك المركزية خاصة لدى الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي من استقرار معدل التضخم عند 2.0 في المائة فأدنى، وهو ما انعكس سلبا على عموم أسواق الإسكان في العالم بتباطؤ نشاطها بأكثر من الثلث، ودخولها في ركود على مستوى نشاطها البيعي، امتد تأثيره في عديد من تلك الأسواق إلى بداية تصحيح الأسعار المتضخمة فيها، وفي أخرى توقف التأثير عند إيقاف رالي ارتفاع الأسعار السوقية، الذي انطلق فيها من بعد الأزمة المالية العالمية 2008 بدعم من سياسات التيسير الكمي بتريليونات الدولارات، واقترانه بتدني معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها تاريخيا.

محليا، تعزى أسباب تقلص القدرة الشرائية لدى المستهلكين إلى عديد من العوامل، لعل من أبرزها وأهمها السبب الأول: الارتفاع المطرد لأسعار الأراضي والمساكن، الذي اندفع في صعوده بالتزامن مع زيادة تسهيلات الحصول على القروض العقارية المقترنة بالدعم السكني وفق آليته السابقة، خاصة مع مطلع 2019، واستمر على تلك الوتيرة حتى منتصف الربع الأول من العام الجاري، التي شهدت فيما بعد ترشيد ذلك الدعم السكني وخفضه بنسب راوحت بين 70 و80 في المائة، وهو الأمر الذي سيكون له آثار إيجابية في مراحل زمنية تالية متوسطة وطويلة الأجل، رغم عدم تقبله من قبل شريحة من المستهلكين، الذين قد يكون غاب عن نظرتهم العلاقة الطردية بين الدعم والأسعار، وأنه كلما ارتفع ذلك الدعم ارتفعت الأسعار بأعلى من حجمه بعدة أضعاف.

السبب الثاني الذي أسهم في تقلص القدرة الشرائية: الارتفاع المطرد الذي طرأ على معدلات الفائدة -الرهن العقاري-، ووصوله إلى أعلى مستوياته خلال نحو 23 عاما، وارتباطه كما سبقت الإشارة إليه أعلاه بالسياسات المتشددة للبنوك المركزية، ومن ضمنها بالتأكيد البنك المركزي السعودي "ساما" لارتباط السياسة النقدية للريال بمثيلتها للدولار الأمريكي. السبب الثالث: ترشيد الدعم السكني وخفضه كما تمت الإشارة إليه أعلاه. وكما يلاحظ فإن السببين الثاني والثالث أديا إلى انكماش المتحصلات من النقد اللازم لشراء الأرض أو المسكن، وهو النتيجة العكسية لما كان عليه الوضع قبل ذلك، حينما كانت الفائدة عند أدنى مستوياتها، والدعم السكني عند أعلى مستوياته، وكيف أنهما برفع القدرة الشرائية لدى المستهلكين تم الدفع بمستويات الأسعار نحو الارتفاع القياسي خاصة خلال الفترة 2019-2022، وخلال الفترة التي تلتها حتى تاريخه بعد ارتفاع الفائدة وانخفاض الدعم، ظلت الأسعار السوقية شبه مستقرة عند مستوياتها القياسية التي وصلت إليها، بالتزامن مع تقلص حجم مبيعات سوق الإسكان بنحو 26 في المائة حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري، وتقلص نشاط التمويل للفترة نفسها بنسبة فاقت 39 في المائة.

قد تبدو الصورة غامضة لدى كثير من المستهلكين في الأجل القصير، إلا أنها ستأخذ منحنى آخر أكثر إيجابية بالنسبة إليهم مع استمرار العوامل الراهنة فترة أطول، وسيدعمها بصورة أكبر زيادة نشاط التطوير العقاري وضخ مزيد من المنتجات السكنية ذات التنوع الأكثر والجودة العالية، خاصة مع زيادة دخول عديد من شركات التطوير العقاري الأجنبية، الأمر الذي سيسهم في الأجلين المتوسط والطويل بالإسراع في تحقيق التوازن المنشود بين العرض والطلب، وتقليص الفجوة بينهما بدرجة أكبر، ما سيؤدي بدوره إلى التصحيح الصحي للأسعار وإعادتها إلى مستويات عادلة، وملائمة للشريحة الأكبر من المستهلكين، ويؤدي أيضا إلى تحسن نشاط سوق الإسكان دون آثار تضخمية، وهذا بكل تأكيد سيصب في مصلحة المستهلكين وشركات التطوير العقاري، وفي مصلحة الاقتصاد الوطني عامة بمزيد من النمو والاستقرار، وبمزيد من إسهامات النشاطات الاقتصادية المنتجة "منها نشاط التطوير"، التي سيؤدي نموها مجتمعة إلى زيادة الوظائف وتحسين مستويات أجورها، كما ستسهم هذه التطورات الإيجابية في تحول كثير من الثروات المحلية نحو النشاطات الإنتاجية، على حساب تدويرها والمضاربة بها في نشاطات غير منتجة وغير مفيدة للاقتصاد الوطني، ويمثل هذا واحدا من أهم المكاسب التي سيحصل عليها كل من الاقتصاد والمجتمع، هذا عدا أنه سيسهم في زيادة قدرة الاقتصاد على إيجاد الوظائف من جانب، من جانب آخر سسيسهم في زيادة تنوع قاعدة الإنتاج المحلية، ويسهم أيضا في زيادة متحصلات المالية العامة من العوائد غير النفطية، التي ستعزز بدرجة كبيرة من الاستقرار المالي، وتخفيف الاعتماد على الإيرادات النفطية.

أخيرا وليس آخرا، من شأن هذا التحول في اتجاهات السيولة المحلية والثروات من مجرد المضاربات والتدوير في نشاطات غير إنتاجية، وتوجهها نحو قنوات الاستثمار وتمويل النشاطات الإنتاجية، أنه سيحد كثيرا من الآثار التضخمية التي عادة ما تسبب فيها هذه المضاربات، سواء في سوق الإسكان أو على مستوى الاقتصاد الكلي، وهذا بالتأكيد مكسب مهم يضاف إلى إجمالي المكاسب التي سيتحصل عليها اقتصادنا ومجتمعنا في الأجلين المتوسط والطويل، وسيكون أيضا داعما لبرامج ومبادرات رؤية المملكة 2030، وهي المكاسب في المجمل التي سيؤدي تحققها بمشيئة الله تعالى إلى دفع النمو الاقتصادي المحلي، وتعزيز تنافسيته إقليما ودوليا، إضافة إلى السيطرة بصورة أكبر على كل من التضخم والبطالة.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية