التضخم وسعر الصرف وشبيه المرض الهولندي

01/11/2023 2
د.صالح السلطان

يعاني العالم موجة تضخمية متوقع استمرارها في العام المقبل. وهي موجة أجلت وتؤجل دعوات خفض الفائدة. بل هناك دول كثيرة رفعت الفائدة لمواجهة التضخم. وقد تضررت قطاعات وجوانب كثيرة من اقتصادات الدول من تلك الموجة. نعوذ بالله من شر الغلاء، وراء الموجة التضخمية حدوث وتطور عوامل مؤثرة في الاقتصاد العالمي ونموه في الأعوام الأخيرة. وهناك استمرار في تحديات حركة السلع وإمدادها عالميا، التي زادت من تحدياتها التوترات الجيوسياسية. من الجانب الآخر، معروف أن الموجة التضخمية لها تأثيرات ملموسة في أوضاع ماليات الدول وسياساتها النقدية، محليا، هناك جهود ملموسة للحكومة السعودية في دعم النمو الاقتصادي، وتقليل اعتماد هذا النمو على النفط، عبر مجموعة واسعة من الإصلاحات والاستراتيجيات والمشاريع التنموية. وكل هذا أسهم -بتوفيق الله- في تعزيز قدرة المملكة على مواجهة التحديات التي يمر بها الاقتصاد العالمي. ويظهر هذا التعزيز الذي أنعم الله به على هذه البلاد في المؤشرات الاقتصادية، ونمو القطاع غير النفطي، وانخفاض نسبي في معدلات التضخم مقارنة بالمعدلات عالميا.

لدينا طموحات في مزيد خفض لمعدلات التضخم. وفي هذا أركز على طرح سبق أن طرحه البعض في موجات تضخم سابقة، ويعاد طرحه مع كل موجة تضخم. طرح طارحون فكرة رفع سعر الصرف، بهدف إحداث مزيد خفض لمعدلات التضخم المحلية. كيف؟ رفع سعر الصرف سيسهم في خفض تكلفة الواردات من سلع وخدمات، ومن ثم خفض التضخم بدرجة ما. وسأل أكثر من سائل عن الرأي في هذا الاقتراح. الجواب، باختصار، أن هناك منافع وهناك مضار من رفع قيمة الريال، لكن المضار أكثر من المنافع، ابتداء أشير إلى نقطة. لن تذهب إلى المستهلكين كل فائدة رفع سعر الصرف فخفض تكلفة الواردات، لأن كثيرا من السلع لن تنخفض أسعارها بالنسبة نفسها التي انخفضت فيها تكلفة الواردات، خلاف النقطة السابقة، يطرح سؤال جوهري: ما الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل رفع الريال لجلب خفض نسبي في التضخم؟

أضرار تتركز في ثلاثة مجالات: الصادرات غير النفطية، والتحويلات، والتنافسية.

رفع أثمان الصادرات السعودية غير النفطية، لأنها مسعرة بالريال. كنا لا نعتمد كثيرا على ذلك النوع من الصادرات، لذلك لم تكن في السابق تعطى أهمية كبيرة لرفع أثمان هذه الصادرات. لكن هذا النوع في تغير. هناك توجهات جادة لتحقيق تنويع قوي لمصادر نمو الاقتصاد، ومن التوجهات التوسع في الصادرات غير النفطية، ورفع قيمة الريال يعاكس جهود التوسع، أما من جانب التحويلات، فلأن الوافدين يحولون مليارات الريالات إلى الخارج شهريا. ورفع قيمة الريال سيزيد من حدة المشكلة، نعم الاستيراد سيزيد، وفي المقابل ستضعف قدرة الإنتاج المحلي التنافسية. وهذه من علامات إصابة الاقتصاد بما يشبه المرض الهولندي Dutch disease، ومن ثم يعامل قياسا كهذا المرض. وللعلم، القياس مبدأ في أصول الفقه، وفي علوم أخرى، وله تطبيقات في مسائل كثيرة، المرض الهولندي يقصد به تضرر قطاع صناعي من جراء ازدهار قطاع موارد طبيعية. ويلحق به أو يقاس عليه أن نقول تضرر ازدهار قطاع من جراء حصول ازدهار لقطاع آخر لسبب غير التطور التقني.

أصل إطلاق هذه العبارة كان على الآثار غير المرغوب فيها على الصناعة الهولندية نتيجة اكتشاف الغاز الطبيعي في القرن الـ19 الميلادي. ذلك بأن هذا الاكتشاف تسبب في زيادة أجور اليد العاملة الهولندية مقارنة بالأجور في ألمانيا، وتبعا تسبب في ارتفاع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة الهولندية، وهذا بدوره أدى إلى ضعف منافسة الصناعة الهولندية في الداخل والخارج، وللفائدة، سعر الصرف الاسمي هو السعر المعتاد عليه الذي تتم به مبادلة عملتين. أما سعر الصرف الحقيقي، فهو سعر الصرف الذي يقيس القوة الشرائية الخارجية للعملة الوطنية. ولذلك يعتمد على أسعار الصرف الاسمية وعلى مستويات الأسعار في الدول.

كيف يحدث ما يشبه المرض الهولندي في اقتصاد نفطي؟ زيادة الإنفاق العام والخاص تصحبها زيادة إنفاق استهلاكي، ومن ثم فائض في الطلب على الخدمات والسلع واليد العاملة، وهذا هو الأثر الإنفاقي. وينشأ من فائض الطلب زيادة الأسعار النسبية للخدمات والسلع غير القابلة للتداول في التجارة الدولية، مقارنة بأسعار السلع القابلة لأن تستورد، وهذا يعني ارتفاع أسعار الصرف الحقيقية. وزيادة الأسعار النسبية للخدمات يصحبه عادة ارتفاع معدلات الربح فيها، وهذا عامل رئيس في دفع المستثمرين إلى استثمار أموالهم في إنتاج الخدمات أكثر من استثمارها في إنتاج السلع.

عبر الأعوام، كان من آثار موجات ارتفاع عائدات النفط نمو قطاعات الخدمات في بلادنا "وفي دول نفطية أخرى"، بصورة أقوى كثيرا من نمو قطاع الصناعة التحويلية عامة. أي يتوقع إصابة الاقتصاد بما يشبه أو يقاس على المرض الهولندي. وقد تبنت الرؤية سياسات لإصلاح الوضع. ورفع قيمة الريال لا ينسجم مع هذا الإصلاح. وبالله التوفيق.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية