بين «أمية» النزاهة وضرورة «تعليمها»

22/10/2023 0
د. محمد آل عباس

هذا المقال يأتي ضمن سلسلة من المقالات التي كتبتها عن ضرورة تعليم النزاهة Integrity للطلاب، فالنزاهة ومكافحة الفساد، ليست مفاهيم فطرية، بل هي من مفاهيم التعلم، أي أنها تكتسب من البيئة المحيطة للإنسان، وهي من القيم التي يتلقاها وهو صغير، من المفاهيم التي يرسمها في مراحل التعليم المختلفة عن مفهوم الفرصة، عن العقاب، عن احترام سيادة القانون، عن الحسن والقبيح، وعن الخوف والرغبة. كل ذلك يتلقاه الطفل منذ أعوام التعلم الأولى في المنزل ثم في المدرسة حتى التخرج من الجامعة. يولد الإنسان ولديه رغبة في الفوز بكل ما يشتهي، ولديه أيضا خوف من الألم، هذه أدوات فطرية، لكنه يفسرها بطريقة تتناسب مع مراحل الحياة، خوف في بدايات الحياة ثم رغبة جامحة ثم خوف، وقد لا يتحقق التوازن في حياته أبدا، توازن بين تحقيق ما يشتهي وبين الخوف من تحقيق ذلك. المبدعون في الحياة -وهم قليل- اكتشفوا العلاقة الصحيحة تماما في هذه العلاقة، إزالة الخوف بشكل نهائي والسعي خلف ما تشتهي الأنفس يقود الإنسان نحو تجريب كل شي بكل ما تعنيه هذه الكلمة، لكن هذا يؤدي بالإنسان للموت كما حدث مع ابن فرناس عندما حاول الطيران، والخوف المطلق يجعل الإنسان يموت وحيدا ببطء في غرفة مظلمة، كمن ينتحر من الخوف، فكلا الطرفين تطرف يقود للموت حتما، الحياة تكمن فيما بين الطرفين، والإبداع فيها يكمن في التوازن، لا يمكن لمن خاف أن يبدع، لذلك دائما ما يحض القرآن الكريم على عدم الحزن والخوف، الخوف من الفقر يقود للشح، والشح موت، لكن تحقيق هذه المعادلة يتطلب تربية وتعليما، لذلك بعث الله الرسل، لتحقيق توازن الإنسان، بين خوفه وشهوته، "إن الله لا يحب المعتدين" في أي طرف، فلا الخوف ولا الرغبة مبرر لنا للاعتداء، هذا هو التعليم والتربية التي يجب أن يعمل عليها كل أب وأستاذ في البيت وفي المدرسة، وحتى الجامعة، يجب على الإنسان تحقيق توازن عادل بين خوفه ورغباته.

النزاهة توازن والفساد تطرف، قد يكون الفساد تطرفا في الخوف أو تطرفا في الرغبة، كلاهما فساد، وكلاهما معطلان للحياة والتنمية، المبالغة في التشدد باسم الدين والتربية الصالحة تطرف، يقود إلى إهلاك النفس وحرمانها من كل ما أحل الله، في رهبانية لم يكتبها الله علينا، وفرض ذلك بالقوة الجبرية تطرف وترهيب، الزهد نزاهة، وهو إبداع الإنسان المسلم في التغلب على خوفه من الفقر، فهو يعمل عمل من يحرص على الدنيا ثم يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، فهو توازن وليس تطرفا، عمل في الدنيا لخدمة المجتمع ومشاركة الناس، ثم العطاء والتبرع والسخاء بلا خوف، هذه القيم الضخمة والعظيمة لم تأت بها النفس الإنسانية، بل هي من تعاليم الإسلام التي جاء بها الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، لهذا فإن النزاهة تعلم في المقام الأول، ولا بد من خطة لتعليم النزاهة، ولا يترك الأمر لمن يستغل هذه القيم العظيمة لتوجيه المجتمع بطريقة تقود للتطرف.

تعليم النزاهة ضرورة للحياة المطمئنة للفرد والمجتمع، "فأمية النزاهة"، تجعل المجتمع متناقضا غير مستقر، غير قادر على الحوار والتفاهم بين أفراده، بل يتحول إلى مجتمع "فرض الأمر الواقع" بالقوة والقهر فقط ولو بالسلاح والقتل، ولا تستغرب مشاهد الاعتداء التي تظهر في مجتمعات "من المفترض" أنها متحضرة، فمع تخفيض مفهوم جريمة السرقة وآلية تجريمها "للتغلب على مشكلة التضخم" تم تحديد مبلغ معين لذلك، أقل منه ليس جريمة سرقة، فظهرت فورا جرائم السرقة المتعمدة كل يوم وفي الأسواق جهرا، سرقات مخططة بحيث يتم استغلال الحد الفاصل بين التجريم وعدمه، لقد غفلت تلك الشعوب عن مفهوم النزاهة وقيمها، فالسرقة تبقى شرا وتطرفا ولو كانت غير مجرمة قانونا، فرق بين هذه المجتمعات التي تدعي التحضر وبين مجتمع عمر بن الخطاب الذي أوقف حد السرقة في عام المجاعة، ومع ذلك لم يسرق أحد، فرق بين مجتمع "أمي النزاهة" ومجتمع "نزيه"، ذلك أن التعليم في المجتمعات "أمية النزهة" كان ولا يزال مبنيا علـى تغليب الخوف من العقاب الذي يفرضه القانون، فإذا زال الخوف من القانون ظهرت الرغبة ولو بالعنف وفقا لمبدأ التوازن بين الخوف والرغبة الذي أشرت له أعلى المقال، بل ظهرت أفكار إبداعية في السرقة من المتاجر في وضح النهار دون أن يكون لذلك أثر قانوني، فالتعليم لم يكن إذن تعليم النزاهة، بل تعليم الخوف من القانون. ومثل ذلك في المحاسبة الإبداعية للتهرب من الضريبة، كل هذه أمثلة واضحة على الفرق بين تعليم النزاهة وتعليم الخوف من القانون، احترام القانون من أجل روحه هو من تعليم النزاهة، النزاهة هي إبداع التوازن بين الخوف والرغبة، فحتى لو غاب القانون تماما لا بد أن يبقى لدى الإنسان شيء من التوازن للإنسانية، هذا لا يتحقق عند الإنسان السوي إلا من خلال التعليم فقط.

كتبت في مقال سابق عن فلسفة جوستاف لوبون الفرنسي الذي قال: إن الحضارة هي إدخال الشعور في اللاشعور، وقلت في معنى ذلك أن تصبح المفاهيم الحضارية ومن أهمها النزاهة عند المجتمع في اللاشعور، أي تصبح من الإعدادات الداخلية لدينا، بحيث نرفض رفضا باتا أي اعتداء على قيم النزاهة، رفضا يجعلنا لا نستطيع الحياة أو البقاء في مكان يملأه الفساد، لا نستطيع الجلوس بجوار الفاسدين، لقد وصلت الحضارة الغربية -قبل تراجعها في القرن الـ20- إلى مستويات قريبة من هذا، ووصلت حضارتنا الإسلامية إلى هذا في عصر النبوة وما بعدها، لكن الإنسانية تراجعت اليوم بشكل مخيف في كل مكان تقريبا، فلا أحد يتورع عن ارتكاب الفساد في غياب الخوف من القانون. الخوف من القانون يمثل الشعور بالنزاهة، وهذا لا يكفي لبناء صرح حضاري، لا يكفي أن نهدد كل يوم بتطبيق النظام في مجتمع لم يتعلم معنى النزاهة. الحضارة روح كما يقول شبنجلر، وإني اليوم في أشد القناعة بأن العالم بحاجة إلى روح حضارية جديدة قوامها النزاهة، والتوازن الإبداعي بين الخوف والرغبة، ولن يتحقق ذلك إلا بالتعليم.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية