أظهر أحدث المؤشرات الرئيسة عن الاقتصاد الأمريكي المتعلقة بسوق العمل، استقرار معدل البطالة عند 3.8 في المائة، ورغم أنه عكس احتفاظ السوق والاقتصاد بدرجة من القوة، واقتراب المعدل من أدنى مستوياته التاريخية منذ مطلع 1969، حدث كل ذلك إزاء الإجراءات الصادمة للأسواق التي بدأ باتخاذها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ منتصف مارس 2022، المتمثلة في رفعه معدل الفائدة بنحو 525 نقطة أساس خلال عام ونصف العام فقط، إضافة إلى نهج التشديد الكمي المتزامن مع تلك الوتيرة المتسارعة لرفع الفائدة، إلا أن مشاهدة إجمالي المؤشرات الرئيسة الأخرى في الإطار العام، بما فيها معدل التضخم المنتظر الإعلان عن مستواه للشهر الماضي بعد ثلاثة أيام من تاريخه، وهو "المحور الرئيس" لسياسات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إضافة إلى بقية المؤشرات وتوقعاتها، سيظهر صورة لا يرغب فيها الأمريكان خاصة، ولا أقطاب الاقتصاد العالمي بوجه عام بالتأكيد.
قبل الذهاب إلى تلك الصورة، سيكون من الأهمية التقاط ما توصل إليه الخبير الاقتصادي محمد العريان، أخيرا، في مقال بعنوان "الاقتصاد الأمريكي مهدد.. أمامه طريق أكثر وعورة"، كاتبا مختصر الحالة التي يقف عليها الاقتصاد الأمريكي الآن "الفترة العصيبة التي تشكلت من ارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار النفط، والدولار القوي، تعمل على تحويل إجماع الأسواق المالية بشأن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة بعيدا عن فكرة الهبوط السلس المريحة. في الأسبوعين الماضيين فقط، ارتفع العائد على السندات الأمريكية القياسية لأجل عشرة أعوام نحو 0.5 نقطة مئوية إلى نحو 4.8 في المائة كجزء من تحول شامل في هيكل أسعار الفائدة برمته، رفعت هذه الخطوة التغير في العوائد نقطة مئوية واحدة لافتة للنظر منذ نهاية يونيو، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الاقتراض للشركات، وزيادة قروض السيارات المرهقة للأسر، وتدفق الودائع خارج النظام المصرفي بوضوح وتفاوت مع تحويل المستثمرين النقد إلى حسابات سوق المال. جدير بالذكر أن تكلفة الرهون العقارية لأجل 30 عاما على وشك أن تتجاوز 8 في المائة، ما يجعل شراء المنازل باهظة الثمن أصلا أبعد منالا".
الخطوة ما قبل الأخيرة حتى نهاية ما تقدم أعلاه، تتمثل في ارتفاع توقعات الأسواق والمستثمرين مجددا تجاه نيات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمعدل الفائدة في الاجتماع المقبل "مطلع نوفمبر"، الذي يدفع نحو وتيرة أكبر من الضغوط التي سبق الإشارة إلى أبرزها أعلاه. الآن، كيف يمكن توقع ما إذا كان الاقتصاد الأمريكي اقترب أو ابتعد عن السقوط في وحل الركود "أو حتى الركود التضخمي"؟ هنا تأتي أهمية الاعتماد على إحدى أهم الأدوات التي ابتكرتها كلوديا سام في 2019، محللة الاقتصاد الأولى سابقا في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لمدة 12 عاما، تمثل ابتكارها في مؤشر عرف بـ"قاعدة سام" Sahm Rule، يمكن من خلاله معرفة ما إذا كان اقتصاد الولايات المتحدة قد انزلق ليدخل حالة ركود أم لا؟ وكدليل على الدقة العالية التي حظي بها هذا المؤشر، فقد حظي بإشادة كبيرة من "بول كروجمان" الحائز جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عن مساهماته في النظرية التجارية الجديدة والجغرافيا الاقتصادية الجديدة.
تقوم منهجية "قاعدة سام" هنا على أن الاقتصاد يعد في حالة انكماش عندما يرتفع المتوسط المتحرك لثلاثة أشهر لمعدل البطالة بنصف نقطة مئوية "50 نقطة أساس"، مقارنة بـأدنى نقطة له خلال الأشهر الـ12 السابقة، رغم أن هذه القاعدة تقوم على وجود متغير واحد، إلا أنها تمثل الأداة الأفضل للرصد الآني للركود، والأسرع في الوقت ذاته مقارنة بآلية عمل اللجنة المسؤولة رسميا عن تحديد بداية ونهاية أي انزلاق للاقتصاد في الولايات المتحدة، المكونة من ثمانية أشخاص في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، وتعتمد على ستة مقاييس على أقل تقدير، إضافة إلى استغراقها لما يقارب عاما كاملا حتى تقرر هذه اللجنة ما إذا كان الركود قد بدأ أم لا؟
وفقا لـ"قاعدة سام" وبناء على أحدث معدل بطالة تم إعلانه نهاية الأسبوع الماضي، فقد ارتفع الفارق بين المتوسط المتحرك مقارنة بـأدنى نقطة له خلال الـ12 شهرا السابقة إلى 30 نقطة، مقارنة بحجمه البالغ 23 نقطة أساس خلال أغسطس، علما أن الفارق لم يكن يتجاوز عشر نقاط أساس حتى أبريل الماضي من هذا العام، وبناء عليه وتحت توقعات مزيد من الإجراءات المتشددة للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، التي سيكون من إحدى أهم نتائجها ارتفاع معدل البطالة، فإن أي تجاوز للمعدل الأخير البطالة كأن تصل إلى 3.9 في المائة أو أعلى من ذلك، سيقود فورا إلى تجاوز الفارق وفقا لـ"قاعدة سام" سقف نصف نقطة مئوية، ما سيعني بدوره انزلاق الاقتصاد الأمريكي نحو الانكماش والركود قبل نهاية العام الجاري، أو مطلع العام المقبل على أبعد تقدير، وعندها ستبدأ فصول قصة أخرى للاقتصاد الأمريكي خاصة والاقتصاد العالمي بشكل عام، وسيقف الجميع مترقبا أمام ما سيقوم به الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أمام هذا التحول العكسي للاقتصاد، والأخذ في الحسبان مستويات الأسعار "التضخم"، الذي عاد للارتفاع مجددا منذ يوليو الماضي إلى 3.2 في المائة، ثم إلى 3.7 في المائة خلال أغسطس، وخلال الأيام الثلاثة المقبلة سيتم التعرف على مستواه، هل سيأتي متوافقا مع المتوقع "3.6 في المائة" أو أعلى أو أدنى منه؟
ختاما، سيكون الربع الأخير من العام الجاري على المستوى الاقتصادي العالمي معبأ بكثير من الضغوط والتحديات والتطورات، التي سيشكل تفاعلها وما سينتج عنه من نتائج وآثار عاملا رئيسا في رسم ما سيكون عليه الاقتصاد العالمي عموما والأمريكي تحديدا خلال العام المقبل، ودون أدنى شك فإن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيكون أحد أكبر اللاعبين المؤثرين بقراراته وإجراءاته، ويؤمل ألا تتحقق وجهة نظر الخبير الاقتصادي محمد العريان في نهاية مقاله المشار إليه أعلاه، حينما كتب "إذا اتسع نطاق الخلل الوظيفي في الكونجرس، واستمر الاحتياطي الفيدرالي في التلكؤ في تغيير الأسس الرئيسة لصياغة سياساته، فإن التحول في المفاجآت الاقتصادية الأمريكية لن يكون سارا سواء للاقتصاد المحلي الأمريكي أو بقية العالم".
نقلا عن الاقتصادية