لكي نستوعب سبب الاعتقاد أن معدلات الفائدة ستستمر عالية عدة أعوام، أستميح القارئ الكريم بشرح خفيف وسريع لنظرية متعلقة بتأثير السيولة في الأسعار، وعلاقة ذلك بمعدل الفائدة ومعدل دوران النقود، ونظرة ميلتون فريدمان الاقتصادي الشهير إلى دور التضخم ومسبباته، وصل العائد على السندات العشرية الأمريكية إلى 4.49 في المائة هذا الأسبوع، وهو أعلى عائد منذ ما قبل الأزمة المالية العالمية في 2007، ويؤخذ ارتفاع العائد دليلا على تزايد احتمالات استمرار الفائدة الفيدرالية عند مستويات عالية، ربما لعدة أعوام من الآن، رغم أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي قرر إبقاء معدل الفائدة الرسمية كما هو عند 5.5 في المائة في آخر اجتماع له هذا الأسبوع.
يمكننا فهم الصراع الدائر بين الفيدرالي ومعدلات الفائدة بمراجعة النظرية النقدية الحديثة بشكل مبسط وسريع، فهناك معادلة رياضية عبارة عن كفتي ميزان، الكفة اليمنى هي الناتج المحلي الإجمالي واليسرى هي السيولة النقدية في البلاد، ويجب أن تبقى كفتا الميزان في توازن دائم في جميع الأوقات. لذا فإن فهم المعادلة هذه يفيد كثيرا في معرفة أسباب ارتفاع التضخم ودور السيولة النقدية في ذلك. غني عن القول إن المقالة ستختصر كثيرا من التفاصيل المتعلقة بنظرية كمية النقود منذ زمن الاقتصاديين الكلاسيكيين مثل فيشر ومارشال، إلى النظرية الحديثة لميلتون فريدمان، وغيرهم، ونكتفي بالقول إن الكفة اليمنى من الميزان هي السيولة النقدية، وعادة يستخدم عرض النقود ن2 في ذلك، مضروبا في معدل دوران النقود الذي يعتمد على حيوية النشاط الاقتصادي في البلاد، وفي الكفة اليسرى من الميزان نجد كميات السلع والخدمات مضروبة في أسعارها. أي إن الميزان هو: السيولة ضرب الحركة الاقتصادية يساوي السلع والخدمات ضرب أسعارها، وبالتالي فالتضخم يحدث عندما ترتفع الأسعار في الكفة اليسرى، لكن ما السبب؟ بحسب ميلتون فريدمان، فالتضخم ظاهرة نقدية في جميع الأوقات وفي كل مكان! من خلال هذا الميزان سنعرف سبب اقتناع فريدمان بأن التضخم سببه السيولة، وأبسط صور ذلك نراه في لو أننا قمنا برفع حجم السيولة في الكفة اليمنى فسيختل الميزان، وكي يعود إلى وضعه المتوازن يجب علينا إما رفع وزن الكفة اليسرى بزيادة الأسعار أو زيادة الإنتاج من السلع والخدمات، أو أن نقوم بخفض النشاط الاقتصادي في الكفة اليمنى، أي معدل دوران النقود.
لا يوجد حل آخر لمواجهة تأثير رفع السيولة، أي عرض النقود، إلا بخفض الحركة الاقتصادية، وهذا ما يقلق جيروم بأول، حين يسمع عن استمرار نسب التوظيف العالية وقوة الحركة الشرائية من قبل المستهلكين، ولو نظرنا إلى معدل دوران النقود فسنجد أنه في انخفاض مستمر منذ 1997 حين كان 2.2 ووصل إلى 1.1 في بداية أزمة كورونا. مرة أخرى دوران النقود يزيد وينقص مع حركة النشاط الاقتصادي، فهو يرمز لعدد مرات استخدام الدولار الواحد خلال أي فترة زمنية اقتصادية، وهو من زاوية أخرى مجرد قسمة الناتج المحلي على مستوى السيولة. وسبب انخفاض معدل دوران النقود طيلة الأعوام الماضية يعود إلى الارتفاع المتواصل في مستويات السيولة، أي لو أن حركة النشاط الاقتصادي استمرت بقوة ونشاط دائم مع ارتفاع السيولة فستكون الكفة اليمنى من الميزان أعلى بكثير من الكفة اليسرى وسيتطلب ذلك اتخاذ إجراءات معينة في الكفة اليسرى، كرفع مستوى الإنتاج في الاقتصاد، وهذا ليس بالخيار الممكن في معظم الأحيان، كون هناك طاقة قصوى للاقتصاد لا يمكن تجاوزها بسهولة، أو أن علينا قبول ارتفاع الأسعار لتصبح الكفة اليسرى مساوية للكفة اليمنى كما ينبغي.
لذا لا تستغرب حين تشعر بأن الفيدرالي الأمريكي يريد تعطيل الحركة الاقتصادية، والسبب أن ذلك يؤدي إلى التخفيف من وزن الكفة اليمنى حين ترتفع السيولة، فيكون العلاج بخفض معدل دوران النقود، الذي بطبيعته ينخفض مع انخفاض النشاط الاقتصادي. هنا تتضح المشكلة التي يعانيها الفيدرالي، وهي أنه يعلم أن الكفة اليمنى، حيث توجد السيولة، سترتفع من الآن ولعدة أعوام مقبلة، فكيف يمكن معادلة ميزان النظرية النقدية حيث تتساوى الكفتان؟
السيولة في النظام المالي ستزيد رغم محاولات الفيدرالي التخلص من الأصول التي قام بشرائها منذ الأزمة المالية 2008، حيث بلغت أصوله نحو تسعة تريليونات دولار في أبريل 2022 وبدأت في الانخفاض الخفيف إلى 8.3 تريليون دولار قبل أزمة المصارف الأمريكية في مارس من هذا العام، التي على إثرها ارتفعت السيولة إلى 8.7 تريليون دولار. فكلما قام الفيدرالي بشراء الأصول، من سندات حكومية وسندات رهونات عقارية، ارتفعت السيولة البنكية، وكلما قام بالبيع كما هو حاصل خلال الأشهر الستة الماضية تنخفض السيولة، وهي حاليا عند ثمانية تريليونات دولار، لكن لا يمكن لها أن تستمر في النزول، لماذا؟
استمرار انخفاض السيولة كما يأمل الفيدرالي أن ينتج عنه ارتفاع في معدلات الفائدة، وهناك حدود لما يمكن أن تصل إليه معدلات الفائدة قبل أن تدخل أمريكا ويدخل العالم معها في متاهات اقتصادية كبيرة، إضافة إلى كون ذلك سيرفع تكلفة الدين العام الذي تجاوز الآن 33 تريليون دولار، منها 26 تريليون دولار عبارة عن سندات أصدرتها وزارة الخزانة الأمريكية، التي ستستمر في إصدار مختلف أنواع السندات لسد عجوزات الميزانية السنوية التي تتجاوز تريليون دولار سنويا. أضف إلى ذلك أن الحزب الديمقراطي مقبل على انتخابات رئاسية، وهو الحزب المعروف عنه التهاون في الصرف على برامج اجتماعية واقتصادية متنوعة، جميعها تتطلب رفع إيرادات الحكومة من الضرائب أو الاقتراض المباشر. وقد كان بايدن على وشك شطب مئات المليارات من مديونيات الطلاب ولم يتحقق ذلك، لكن مع ذلك ستتم معالجتها بطرق مكلفة على الحكومة.
ميلتون فريدمان محق في قوله إن التضخم ظاهرة نقدية، والدليل ما نراه أمامنا في كفتي ميزان النظرية، حيث إن مستوى السيولة ومعدل دورانها في الكفة اليمنى يجب أن يقابله في الكفة اليسرى خليط من ارتفاع في الأسعار أو ارتفاع في الناتج الاقتصادي، وبحكم أن من الصعب زيادة الإنتاج بمعزل عن الطاقة القصوى للاقتصاد فالنتيجة الحتمية ارتفاع الأسعار. وبما أن السيولة مرشحة لمزيد من الارتفاع في الفترات المقبلة، فالحل سيكون بخفض وتيرة النشاط الاقتصادي قدر الإمكان للتخفيف من وطأة السيولة المرتفعة، مع محاولة رفع حجم الإنتاج من السلع والخدمات والقبول بارتفاع في الأسعار أعلى من المعدل المستهدف عند 2 في المائة سنويا.
نقلا عن الاقتصادية
المشكله مزمنه وفي هيكل الاقتصاد الامريكي ...ولكن مافاقم مشاكل الاقتصاد الامريكي مؤخرا هو ضخ تريليونات الدولارات اثناء ازمة كورونا ( حتى اصبحت قيمة الدولار الحقيقيه سنتات ) !!..دون تغطيه من انتاج.... واليوم يريدون حل المشاكل باعادة سحب هذه الدولارات لاعادة الامور الى نصابها ولكن يبدو ان الامور اصعب مما يتصورون والله اعلى واعلم ..
مقال تثقيفي ممتاز عن النظرية النقدية .......شكرا يابوعبدالله ،،، ليت من يدعي قياس النقد على الذهب انه قياس صحيح يقرأ مثل هذا المقال كي يعرف ان النقد عبارة عن سهم في الناتج المحلي ...وانه ليس ذهبا وانه اصلا ليس مالا ....لان الآية الكريمة " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات وبشر الصابرين " ....كيف نبتلى بنقص الاموال في النظام الاقتصادي الحديث اذا كان حاكم اي بنك مركزي يستطيع زيادة النقد بكبسة زر فقط لتتماشى مع نمو الناتج المحلى ....بالتأكيد بان النقد المتداول ليس المال الذي تحدثت عنه الشريعة الغراء ....تحياتي
لعل النقص فى الاموال والانفس والثمرات هو نقص بركتها وليس نقص حجمها او قيمتها وبالتالى لا يستطيع اى حاكم بنك مركزى بكبسة زر زيادة بركتها بينما يستطيع زيادة قيمتها ......تحياتى
ماشاء الله مقال رائع من الدكتور فهد . ولايقل جمالا عنه الردود والتفاعلات أسفل المقال . الشكر موصول للجميع .