تجاوز حاليا سعر غالب أنواع النفط الخام 90 دولارا للبرميل، وهو الأعلى منذ عام تقريبا. ودون دخول في تفاصيل، وراء هذا الارتفاع عوامل أقوى من عوامل الخفض. من أحدث عوامل الارتفاع خفض دول على رأسها الصين متطلبات الاحتياطي النقدي للبنوك لتعزيز انتعاشها الاقتصادي، والتفاؤل بانتهاء رفع معدلات الفائدة عالميا، مرت أسعار النفط بارتفاعات قوية مع فترات نزول نسبي. ومتوقع مزيد ارتفاع في الأسابيع والأعوام القريبة المقبلة، بالنظر إلى توقع نمو الاستهلاك مع نمو الاقتصاد العالمي، ونمو السكان، وارتفاع التكاليف، لكن ما طبيعة النمو السابق؟ بحثه عمل شاق. هناك عوامل تستجد بين وقت ووقت بما يصعب التوقعات أمام تقدير ما ينتج وما يستهلك عالميا. هل وراء الارتفاعات شح؟ لم يشهد العالم خللا كبيرا في الإمداد خلال هذا العام أو الأعوام القليلة الماضية. وفوق ذلك، كلمة شح تحمل إشكالا. ذلك لأنه لا يمكن الحديث عن العرض أو البيع بمعزل عن السعر، أي أنه لا يمكن الحديث عن شح في الإمدادات النفطية، دون اعتبار للأسعار.
من جهة أخرى، يحمل كل سعر قدرا من الطلب أي الاستهلاك، أي أنه لا يمكن الحديث عن الشراء بمعزل عن الثمن، من الإشكالات التي تحملها كلمة شح مشكلة الوقت والتوقعات المستقبلية، إذا لم يكن هناك شح في الحاضر، فماذا بشأن المستقبل؟ هل النظرة تميل إلى التشاؤم أم التفاؤل تجاه الإمدادات النفطية على المدى البعيد خاصة؟، لذا، فإن الحديث عن الكميات والأسعار مرتبط بالتوقعات المستقبلية عن أوضاع سوق الطاقة. ينشأ التوازن نتيجة تفاعل الكميات والأسعار، في إطار حركتي العرض والطلب، المتأثرين بعوامل عديدة جدا، صعب حصرها، فضلا عن التعرف على دقائقها وتفاصيلها بصورة جيدة. رغم ذلك، بالإمكان التعرف على العوامل الأهم، حاليا يمكن القول إن هناك أسبابا عدة ترفع أسعار النفط. وهي أسباب ذكرتها جهات معتبرة كثيرة، هناك نمو اقتصادي عالمي القوى، خاصة في عدد من كبرى الدول التي كانت تعد نامية، كالصين والهند، الذي يتسبب في زيادة كبيرة في الطلب على النفط ـ تغير قيمة الدولار الذي يسعر به النفط مؤثر. انخفاض الدولار يساعد على زيادة الطلب.
هناك ضعف في نمو العرض النفطي من غير دول "أوبك". هناك ضعف استثماري وضعف اكتشافات نفطية جوهرية. وتبعا الإنتاج وصل تقريبا إلى طاقته القصوى، هناك انخفاض في السعة الإنتاجية الفائضة عالميا. بالمقابل، هناك جمود في حجم المخزونات inventory التجارية في الدول المستهلكة، ومما يؤثر في الاستهلاك أوضاع الطقس، وما يحدث له من تغيرات وتقلبات. وحديثا نرى توسع ما يسمى المخاطر الجيوسياسية. هذه المخاطر طبعا تسبب قلقا تجاه وفرة العرض، وصدرت عبر أعوام تصريحات من بعض كبار التنفيذيين في شركات نفطية بما يفهم منه صعوبة تحقيق إنتاج نفطي يجاري الطلب دون ارتفاع الأسعار. وقد انتقد البعض هذه التصريحات بأنها تتيح فرصة للمضاربين speculators لدفع الأسعار إلى أعلى، وقد كثر الحديث في الأعوام الماضية عن المضاربة في أسواق النفط ودور المضاربين في رفع أسعار النفط. وتساعد الظروف الدولية الحالية على إتاحة مزيد فرص للمضاربين. وتبعا مزيد تدفق أموال مضاربة عبر صناديق. والمبدأ الحاكم هو المبدأ نفسه في أي استثمار: تحقيق الربح بالشراء بسعر منخفض الآن، بهدف اقتناص فرصة البيع بسعر أعلى لاحقا. من جانب آخر، هناك حاجة على المدى البعيد لترشيد استهلاك النفط، وتطوير بدائل.
معروف أن تحالف "أوبك+" خفض أخيرا إنتاجه من النفط. وراء الخفض ضبابية تحيط بالاقتصاد العالمي، وتباطؤ في اقتصاد الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، وثاني أكبر اقتصاد عالمي، متوقع استمرار خفض التحالف في المستقبل القريب. وفي هذا بين مسؤولون كثيرون في دول "أوبك" وغير "أوبك"، خلال الاجتماع الأخير في الهند لوزراء الطاقة في الدول الأعضاء بمجموعة العشرين، أن المستقبل يحتاج إلى رؤية أوسع، رؤية تشجع على تحقيق توازن بين العرض والطلب، وعلى الاستثمار في تحولات الطاقة، وفق منهجية شاملة لجميع الناس وجميع أنواع الوقود وجميع التقنيات، ما يثار في موضوع الطاقة التغير المناخي، لكن بعض ما يثار يبنى على معلومات واستنتاجات منتقاة، ما يجعلها مضللة، كما أسهم سوء استخدام التطورات التقنية ومنها الذكاء الاصطناعي في نشر التضليل. ومن أحدث أخبار التضليل، أن مجلة تابعة لدار النشر العلمية "سبرينجر نيتشر" Springer Nature، سحبت قبل أسابيع قليلة دراسة نشرتها في العام الماضي بعدما تبين أن ما خلصت إليه بشأن تبعات التغير المناخي مضللة.
باختصار، تتأثر مسارات أسعار النفط بعوامل كثيرة. على رأسها عوامل ذات علاقة بأساسيات السوق على المديين القصير والبعيد. والموضوع يتسم بالتعقيد، وتتأثر موضوعية بحثه باختلاف المصالح.
نقلا عن الاقتصادية