نعم، وهذا عندي قولا واحدا، وذلك عندما تتحول الحوكمة من الرقابة الحكيمة إلى هوس الرقابة، عندما يصبح إنتاج الأنظمة والسياسات واللوائح والتعاميم في العمل هو الهم الأكبر والعمل اليومي البارز، بدلا من الإنتاجية والتركيز على تحقيق الأهداف، عندما تصبح المؤشرات ومراقبتها هي مصدر القيمة، وليس النمو الحقيقي للثروة، وهذا على كل الأصعدة وليس على مستوى الشركات الكبيرة، بل حتى متناهية الصغر والجهات الحكومية. عندما تصبح الحوكمة هوسا، فإن تكلفتها ترتفع بعلاقة غير خطية مع ما تضيفه من قيمة، فالامتثال لها ولما تفرضه من قواعد، له تكلفة أسية بمعنى أن إنتاج نظام رقابي يتطلب إنتاج نظامي رقابي أو أكثر للتأكد من الامتثال للأول، وهكذا حتى تصبح تكلفة الحوكمة عند أعلى حد بينما قيمتها المضافة عند أدنى مستوى. ورغم جهد الباحثين في تقديم أدلة على القيمة الإضافية للحوكمة فإن ذلك لم يتجاوز الادعاء.
كثير من أرباب الأعمال، والمستثمرين، ومعهم كثيرون جدا من الموظفين في القطاع العام، يعتقدون أن إحكام الرقابة يضمن تقليل الهدر وإحكام السيطرة على الفساد، متجاهلين ما تتسبب فيه الحوكمة المفرطة من هدر أيضا وما توجده من فساد، فالحوكمة التي تتركز حول الامتثال القانوني بمعنى التأكد من الالتزام بالقوانين واللوائح تتطلب استثمارات مالية كبيرة، فإنتاج هذه اللوائح يقتضي توظيف محامين أو مستشارين قانونيين لصياغتها جيدا، وفي حال كانت هناك ثغرات - وهو ما يحدث دوما - فقد تقع الهيئات والشركات في فخ إعادة إنتاج لوائح وصياغة جديدة، وقد يحدث ذلك كلما تغير الجهاز التنفيذي، ما يعني مبالغ قد تصل إلى ملايين، تهدر لصياغة هذه اللوائح بما يناسب تفكير صناع القرار في هذه الهيئات والمؤسسات، من المدهش أن هذه السياسات لا تعد ضمن الأصول، بل ضمن المصروفات التشغيلية رغم أنها تنص بوضوح على عمرها الافتراضي مع متطلب إعادة تحديثها كل ثلاثة أعوام في المتوسط. لا تقف تكلفة الحوكمة عند السياسات، بل تتعدى ذلك إلى إنشاء هياكل حوكمة فعالة، فتعيين مجلس إدارة محترف قد لا يتناسب مع حجم أعمال ومهام المنشأة، فبعض المجالس متطلب دوما لإحكام إجراءات الاجتماعات، ما يقود لزيادة التوظيف في الأمانات، كما أن لهذه المجالس تكلفة مكافآت، وأتعاب، إضافة إلى تكلفة التنقل، وغيرها كثير، وللأسف فإن الدراسات قليلة جدا في رصد هذه التكاليف وتتبع أثرها، خاصة أن الجهات حريصة كل الحرص على سرية هذه المعلومات، فلا يتم الإفصاح عنها، وإذا تم فإنه بشكل مخل جدا لا يقود إلى إنتاج دراسات رصينة. حتى لو تم الإفصاح جيدا فإن لهذا الإفصاح وهذه التقارير تكلفة أيضا، ولها متطلبات حوكمة. فإعداد تقارير دورية للمساهمين والجهات الخارجية يشمل تكاليف الإعداد والمراجعة، ذلك أن التقارير بذاتها فاقدة للثقة، نظرا لأنها تتضمن مصالح من أعدها، وهي تتضمن نتائج الأداء فمن الصعب التسليم بمصداقية هذه التقارير دونما فحص، والفحص له تكلفة.
لعلك تلاحظ عزيزي القارئ أن كل عنصر من عناصر الحوكمة يقود حتما إلى إنتاج عنصر آخر بتكلفة جديدة، هذا ما أقوله من أن تكلفة الحوكمة أسية، تتضاعف كلما أنتجنا عناصر جديدة لها، وكلما دخل عنصر جديد زاد من تكلفة العناصر السابقة له، فالحوكمة تتطلب سياسات، والسياسات تتطلب تعاقدا مع مستشارين، وتنفيذ هذه السياسات يتطلب مجلس إدارة محترفا، وهذا يتطلب تقارير، والتقارير تتطلب مراجعة، وهكذا ترتفع التكلفة كلما أردنا أن نعزز من الحوكمة، وهنا سأقف وأقدم نموذجا لذلك وهو نظام الشركات الجديد الذي منح المؤسسات الصغيرة حق عدم تعيين المراجع الخارجي، وقد كان يكفي الوزارة لو وقفت عند هذا الحد، حيث إن أي شركة تصنيف صغيرة من قبل هيئة المنشآت كاف لمنح هذا الحق، لكن الوزارة ذهبت لحوكمة هذا النص فأصدرت لائحة تنفيذية تضمنت شروطا، وهي ألا يتجاوز مجموع إيراداتها السنوية مبلغ عشرة ملايين ريال سعودي أو ألا تتجاوز أصولها مبلغ عشرة ملايين ريال سعودي، أو ألا يتجاوز عدد الموظفين فيها 49 موظفا، كما تطلبت اللائحة عند إيداع القوائم المالية للشركة أن يتم إرفاق بيان يفيد عدم سريان متطلب تعيين مراجع الحسابات على الشركة. وهذا من الحوكمة، لكن هذا ينتج مشكلة حوكمة جديدة تتعلق بالثقة في هذه المعلومات، فبما أن الوزارة وضعت شروطا فلا بد أن تتحقق منها، وهذا التحقق إما أن ينتج تكلفة على الوزارة، أو تطلب الوزارة نقل هذه التكلفة للشركات، ونقلها للشركات يتطلب تعيين مراجعين للتأكد من سريان الشروط وصحة البيان وهذه من الأعمال التي يقوم بها المحاسب القانوني، فكأن الوزارة عادت للنقطة نفسها، وإذا قررت الوزارة الاكتفاء بما تم التقرير عنه دونما تحقق، فإن الشروط لم يكن لها مكان من الإعراب أصلا، إذ إن القرار يعود للشركة في تحديد ماهيتها، هذا ما أقصده بتكلفة الحوكمة وأنها أسية، فأي حكم جديد يتطلب تكلفة إضافية. ولك عزيزي القارئ في تتبع كثير من القرارات والتعاميم التي تتطلب حوكمة مكلفة بينما هي تراقب موضوعا تكلفته أقل من تكلفة حوكمته.
هكذا كلما ذهبت بعيدا في إحكام الرقابة فإنك تزيد تكلفتها، فالحوكمة تتطلب التأكد أن الشركة تدير أعمالها بفاعلية وتحقق أهدافها، وهذا يعني تكاليف لإجراء تقييمات دورية ومراقبة أداء الإدارة التنفيذية، وتتطلب توظيف الخبراء والمديرين التنفيذيين أكثر من المهندسين والأطباء و المحاسبين، والفنيين، وكما تزايدت الرقابة تضخم حجم الهيكل التنظيمي مع تزايد أعداد الخبراء الذين يشغلون مناصب في مجال الحوكمة وتزايدت معه تكلفة الأجور والمزايا، إضافة إلى تكاليف التوظيف والتدريب، وقد تبلغ رواتب مديري الحوكمة في الشركات الكبيرة مئات الآلاف إلى ملايين الدولارات سنويا، ولا عجب إذا رأينا شركات تتكبد خسائر فادحة بسبب رواتب التنفيذيين، بينما كانت ستحقق أرباحا لو تم توفير هذه الرواتب، فأعمال هذه الشركات لا تتطلب هذه المستويات والهياكل المعقدة، والحديث عن هذا يطول، لأن هوس الحوكمة أصبح موجة عارمة، وصل حد إنتاج إدارات للحوكمة وأنتجت تكاليف غارقة كثيرة بينما تكلفة الإنتاج والتشغيل أقل من ذلك بكثير، وللحديث بقية.
نقلا عن الاقتصادية
والله العالم، الأمورُ دائما نسبية بعضها مع بعض ويجب تطبيق مفهوم المنفعة الحدية عليها لتفضيل أحدهما عن الأخر !!!... فإذا زادت منفعة الحوكمة المتزايدة على منفعة زيادة القيمة يجب أن تتوقف إجراءات الحوكمة الإضافية !!... والأفضل أن تقف الإجراءات الإضافية للحوكمة عندما تبلغ 90% (مثلاً) وترك هامش 10% لأخطاء القياس (طريقةً ومعطيات) !!!... ودليلي في ذلك آية الخمر الذي يقول فيها الحقُّ سبحانه وتعالى في سورة البقرة/الآية 219: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)... فربُ العزة والجلال سبحانه يذكرُ أن للخمر والميسر منافع ... ولكن إثمهما أكبر !!!... الأمورُ نسبية دائماً... والسلام.