دور الاقتصاد السلوكي في تحسين القرارات

30/07/2023 2
د. عبدالله بن محمد المالكي

لم يعد ينظر المُشرع أو متخذ القرار الى الفرد النظرة التقليدية التي نادى بها الاقتصاديين الكلاسيك والتي تفترض الرشد او العقلانية عند اتخاذ القرارات المختلفة التي تتعلق بالاستهلاك او الاستثمار فحسب بل أصبح ينظر الى الفرد نظرة أخرى تأخذ في الاعتبار البُعد السلوكي للفرد عند اتخاذه لتلك القرارات او ما يطلق عليه التحيزات المعرفية او السلوكية والتي اثبتت الدراسات والتجارب المتعددة والتي أجريت في العديد من الدول ولفترة طويلة انها هي السبب الذي يحيد بالقرارات عن العقلانية أحيانا كثيرة، ويعود الفضل في ذلك الى تجارب ودراسات عالما النفس دانيال كانيمان وآموس تفيرسكي في سبعينيات القرن الماضي والتي نال على إثرها كانيمان على نوبل في الاقتصاد عام 2002م نظير اسهاماته وجهوده في تطبيق العلوم السلوكية في الاقتصاد أو ما يعرف بالاقتصاد السلوكي كما يعود الفضل وبشكل أكبر الى دراسات وابحاث ريتشارد ثالر أستاذ الاقتصاد والعلوم السلوكية في جامعة شيكاغو والذي حاز نظيرها على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2017م.  

يًعد الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics فرع حديث نسبياً من فروع علم الاقتصاد وهو يعتمد على تحليل السلوك البشري الفعلي (اللاعقلاني أحيانا كثيرة) بخلاف الاقتصاد التقليدي الذي يفترض العقلانية وتعظيم المنفعة عند اتخاذ القرارات اليومية. فالاقتصاد السلوكي يأخذ في الاعتبار التحيزات السلوكية للأفراد عند اتخاذ القرارات مثل تجنب الخسارة والتحيز للوضع الراهن والافراط في الثقة والمقارنات الاجتماعية وسلوك القطيع وغيرها الكثير والتي تؤثر على القرارات اليومية للأفراد وتحيد بها عن العقلانية سواء ما يتعلق بالاستهلاك او الاستثمار او غيرها، ويرى منظرو الاقتصاد السلوكي ان تكرار الازمات الاقتصادية والمالية بشكل خاص يعود الى التحيزات المعرفية او السلوكية للأفراد عند اتخاذ قراراتهم حيث ان معظم القرارات تتخذ بشكل سريع او بناء على تحيز سلوكي معين وفقا للحدس او الاستدلالات Heuristics او نحو ذلك من خلال ما أطلق عليه كانيمان النظام 1 في كتابة التفكير السريع والبطيء. لا شك ان الاقتصاد السلوكي أحدث ثورة في علم الاقتصاد وأجاب على معظم الأسئلة التي بقيت لفترة طويلة دون إجابات واضحة. 

وقد بدأت الدول في استخدام أساليب وأفكار وتطبيقات الاقتصاد السلوكي في صياغة السياسات العامة او على شكل تدخلات سلوكية لتحسين قرارات الافراد وذلك عقب صدور كتاب ثالر الشهير Nudge "الوكز" بعامين وذلك في مكتب رئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق ديفيد كاميرون وبعد نجاح التجارب التي طبقتها المملكة المتحدة من خلال وحدات البصائر السلوكيةBehavioral Insights Teams (BIT) بدأت الدول الأخرى بإنشاء وحدات بصائر سلوكية لتقوم بتطبيق العلوم السلوكية في سياساتها العامة في عدة قطاعات وانشطة مثل الولايات المتحدة والدنمارك وكندا وألمانيا وأستراليا وسنغافورة والمملكة العربية السعودية والامارات والكويت وعمان وقطر ولبنان وجنوب افريقيا وغيرها الكثير، ومن الأمثلة على التدخلات السلوكية إعادة صياغة الرسائل التي ترسل للمستفيدين أو دافعي الضرائب أو المعنيين بالتدخل السلوكي بطريقة تؤدي الى زيادة الاستجابة كأن يتم إضافة اسم المستفيد او المعني بالرسالة او التكلفة التي يتكبدها الجهاز او المجتمع في حال عدم الاستجابة. وما يميز التدخلات السلوكية ان تكون سهلة وجذابة وغير مكلفة واجتماعية ومناسبة في التوقيت. كما انها تختلف عن الطرق التقليدية التي تعتمد على اللوائح والغرامات ونحوها في انها تركز على التحيزات المعرفية او السلوكية للأفراد المستهدفين مثل تجنب الخسارة او التحيز للوضع الراهن كما اشرت الى ذلك سابقا. 

ومن امثلة التدخلات السلوكية في المملكة العربية السعودية ضرورة ابراز السعرات الحرارية للوجبات والمشروبات في كافة المطاعم والمقاهي بحيث يكون الخيار للمستهلك في اختيار الوجبة او المشروب بناء على ما يشاهده من سعرات حرارية لكل وجبة او مشروب بجانب السعر، ومن الامثلة على مستوى السياسات العامة ماقامت به اسبانيا والمتمثل في انشاء نقطة وصول عامة الى الخدمات الحكومية  بهدف تحسين تفاعل المواطنين مع الادارات العامة من خلال الانترنت، وكذلك ماتم في الولايات المتحدة الامريكية من خلال استخدام سكان مدينة بوسطن لتطبيق على الموبايل  باسم تواصل المواطنين بهدف زيادة الثقة في الخدمات الحكومية. وكانت نتائج هذه التدخلات السلوكية ايجابية وبناءً عليها تحسن التواصل بين المواطنيين والحكومة كما تحسن مستوى فعالية العمليات الادارية. كما ان الشفافية التشغيلية كان لها تأثير ايجابي على ثقة سكان مدينة بوسطن ومشاركتهم في ادارة المدينة، وعلى مستوى القطاع الخاص هناك بعض التدخلات السلوكية ومنها على سبيل تجربة مكتب التجارة العادلة التابع لهيئة المنافسة والاسواق التي خضعت للمراقبة بهدف تحليل طريقة عرض الاسعار عبر الشراء الالكتروني (او ما يعرف بالتسعير بالتنقيطDrip Pricing ) ومدى تأثيرها على رفاه المستهلك واتخاذ القرار وتوصلت النتائج الى تأثير التسعير بالتنقيط على رفاهية المستهلكين مما ادى الى دعم اجراءات التنفيذ التي قام بها مكتب التجارة العادلة.

ورغم وجود ثلاثة وحدات بصائر سلوكية في المملكة العربية السعودية (وفقا لنموذج الانتشار) حسب علمي ورغم ما قامت به (ولاتزال) من جهود مشكورة إلا أن الملاحظ اننا بحاجة الى المزيد من هذه الوحدات السلوكية خاصة بعد نجاح معظم التجارب والتطبيقات التي أجريت في معظم الدول وفي قطاعات مختلفة مثل حماية المستهلك وسوق العمل والتعليم والطاقة والاتصالات والصحة والبيئة والقطاع المصرفي والمالي وغيرها، كما ان المرجو ان يكون هناك تنسيق بين هذه الوحدات بحيث تتناول وتغطي معظم القطاعات والأنشطة سواء في القطاع الحكومي او شبه الحكومي وكذلك القطاع الخاص مع ضرورة الإشارة الى التدخلات السلوكية التي قامت بها وتمييزها عن التدخلات التقليدية واعلانها او نشرها على مواقعها الالكترونية  دون ان يكون هناك ازدواجيه او تداخل بين هذه الوحدات.   

 

 

 

 

المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية  عدد ذي القعدة 1444هـ / يونيو 2023م