تختلف إلى حد بعيد جدا أولويات السياسة الاقتصادية الكلية محليا وخارجيا خلال الفترة الراهنة، ففي الوقت الذي يشهد تشديدا دوليا في السياسة النقدية لكبح التضخم، وما سيتبعه من ضغوط على نشاطات الاقتصاد، قد يوصل الاقتصاد الكلي إلى الدخول في ركود كما تتوقعه البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي، ما سيترتب عليه كأحد الانعكاسات الحتمية لذلك الركود، ارتفاعا في معدل البطالة سينتج عنه انكماش في إنفاق المستهلكين، ومن ثم يزداد انحسار الآثار التضخمية في الاقتصاد، الذي يعد في منظوره العام مراقبا باستمرار ولصيق من البنوك المركزية، وهذا هو ما تدور محركاته في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وأجزاء عديدة من دول العالم، باستثناء الاقتصاد المحلي الذي لا يعاني حتى عشر ما تعانيه تلك المناطق من العالم، سواء على مستوى التضخم أو الركود الوشيك أو الديون السيادية الهائلة التي تتجاوز حجم اقتصادات تلك الدول، عدا أن ارتباط السياسة النقدية محليا اقتضى تتبع قرارات رفع الفائدة، للمحافظة على استقرار سعر العملة وأرصدة النقد الأجنبي في البلاد.
يبرز الاختلاف الأكبر في كل ما تقدم ذكره محليا وخارجيا، أن الانكماش أو الركود المستهدف خارجيا لكبح التضخم غير مرحب به محليا، وتجتهد السياسة الاقتصادية الكلية في درئه عن الاقتصاد الوطني وفقا لما تمتلكه من موارد وإمكانات وفيرة، وخيارات واسعة جدا بحمد الله، تنطلق السياسة الاقتصادية في هذا الشأن من القوة الكبيرة التي تتمتع بها السياسة المالية، ويساندها في ذلك قوة صندوق الاستثمارات العامة، حيث تضطلعان -المالية والصندوق- بدعم وتحفيز الاقتصاد الكلي، والقطاع الخاص بدرجة أساسية، للمحافظة على النمو المستدام، والمحافظة على قدرة الاقتصاد الوطني للمضي قدما على مستوى كل من: أولا، زيادة تنوع قاعدة الإنتاج المحلية. ثانيا، زيادة إسهام القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي. ثالثا، زيادة توفير الوظائف للموارد البشرية المواطنة، واستمرار العمل في اتجاه تحسين الدخل وخفض معدل البطالة. رابعا، أن يسهم تحقق ما تقدم في مجموعه كأهداف بالغة الأهمية في تنامي سعة ومتانة الاقتصاد الوطني، التي سيؤدي تحققها إلى تعزيز إيرادات الدولة غير النفطية، وتكامل تحقق تلك المستهدفات مع المنظومة المتكاملة لكل برامج ومبادرات رؤية المملكة 2030.
يتسع الحديث في شأن الجزء الأخير مما تقدم ذكره، شاملا حماية القطاع الخاص والمستهلكين من آثار انعكاسات سياسة كبح التضخم، والعمل أيضا على التصدي للأخطار العديدة التي قد تعرض استقرارهما لأي هزات، من أهمها ما سبق الحديث عنه سابقا، ما هو متمثل في الارتفاع المطرد لتكلفة الإيجارات على كل من منشآت القطاع الخاص ـ تحديدا المنشآت الصغيرة والمتوسطة ـ وعلى مختلف شرائح المجتمع من المستأجرين، مع التأكيد أن انعكاسات ارتفاع تكلفة الإيجار على منشآت القطاع الخاص ستمتد لتشمل مختلف شرائح المجتمع من ملاك مساكن ومستأجرين على حد سواء.
الشاهد الأهم في هذا المحور، أن استعجال إقرار تنظيم سوق الإيجارات محليا، لا تقف أهميته عند مجرد زيادة تنظيم سوق العقار والإيجارات فحسب، بل إن وجوده يمثل جزءا محوريا وأساسا في هيكل السياسة الاقتصادية الكلية، التي يؤمل منها فعليا الدفع بإمكانات الاقتصاد الوطني وتحفيز جميع نشاطاته للتغلب أولا على انعكاسات ما يمر به الاقتصاد العالمي من تحديات كبيرة، وثانيا بالعمل على إبقائه في المسار الصاعد الذي استهدفته رؤية المملكة 2030، وهي الأبعاد الاستراتيجية المهمة جدا التي تقف أي أبعاد أخرى مهما كان حجمها في مواقع أقل أهمية منها، ما يقتضي بدوره أن تبادر الأجهزة الحكومية ذات العلاقة بالشأن العقاري تحديدا، بالعمل على وجه السرعة نحو تنظيم سوق الإيجارات لأجل تلك الأولويات التنموية الاستراتيجية المهمة.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، بل يتجاوزه أيضا إلى تسريع وتيرة البرامج والأنظمة التي تستهدف القضاء على تضخم أسعار الأراضي والعقارات، التي سيسهم تحققه في زيادة فرص نمو الاقتصاد بصورة كبيرة وأكثر استدامة، ويسهم أيضا في زيادة تدفق الاستثمارات في مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، وهو الجانب الذي طالما تكرر الحديث عنه طوال الأعوام الماضية، وما يمثل تحققه على أرض الواقع من أهمية قصوى لمزيد من نمو الاقتصاد والقطاع الخاص خصوصا، سيترتب عليه فتح آفاق أوسع وأرحب للقطاعات المنتجة في الاقتصاد، على حساب القطاع غير المنتج ممثلا في تركز جزء مهم من الثروات والسيولة في مجرد المضاربة على الأراضي وتدوير الأموال فيها، عدا تخزين الجزء الأكبر من الثروات في مجرد تملك الأراضي عقودا زمنية طويلة وانتظار تنامي قيمتها دون أي إسهام في النمو والتوظيف وتنويع قاعدة الإنتاج المحلي.
ختاما، تستمد أهمية الأولويات التنموية والاقتصادية المشار إليها أعلاه، من الأهمية القصوى التي تتسم بها أهدافها الاستراتيجية، النمو الاقتصادي المستدام، زيادة إسهام القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي، زيادة تنويع قاعدة الإنتاج المحلي، زيادة فرص العمل وتوفير العدد اللازم من الوظائف ـ تحديدا في القطاع الخاص ـ أمام عشرات الآلاف من الخريجين والخريجات من الموارد البشرية المواطنة، التي سيسهم تحققها مجتمعة في تسريع تحقق المستهدفات الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030، وهي بالتأكيد المكاسب الأهم على الإطلاق التي انصبت لأجل تحققها كل الجهود والموارد منذ الانطلاقة الأولى لتنفيذ هذه الرؤية الوطنية المباركة.
نقلا عن الاقتصادية