هو بالتأكيد ثمن باهظ جدا، ورغم ذلك يظل هذا الثمن على فداحته الاقتصادية والمالية والاجتماعية، أدنى من الثمن الأكثر فداحة وتكلفة بترك الطريق ممهدا أمام التضخم دون قيد أو شرط، والسماح له بمزيد من الارتفاع المطرد دون توقف، سينتهي بتحمل الاقتصاد والمجتمع أضعاف الانعكاسات المترتبة على كبحه برفع الفائدة، وتجفيف الجزء الفائض من السيولة في الاقتصاد والأسواق، التي تسببت في اضطراب الأسعار وارتفاعها بمعدلات تفوق المعدلات الطبيعية والمقبولة "2 في المائة"، ما يعني بدوره أن خيار الاعتراف بتحمل الأعباء الناتجة عن احتدام الصراع بين معدل الفائدة المرتفع من جانب، ومن جانب آخر معدل التضخم المرتفع والمستهدف خفضه، يظل على ما سينتج عنه من آثار عكسية خيارا أقل مخاطرة من الإذعان لوجود تضخم زاحف للأسعار، سيقضي في نهاية طريقه غير المعلومة على الأخضر واليابس في الاقتصاد الذي يستشري فيه.
يبدأ ثمن صراع كل من الفائدة والتضخم الذي سيتحمله الاقتصاد والمجتمع من تباطؤ النمو الاقتصادي، وقد يصل لاحقا إلى دخول الاقتصاد الكلي في حالة من الركود، وقد يتجاوز كل ذلك لينحدر الاقتصاد في فترة عصيبة من الكساد متى طال الصراع بين المتضادين "الفائدة والتضخم"، مرورا بارتفاع معدل البطالة نتيجة تباطؤ أو تراجع النمو الاقتصادي، وامتناع المنشآت عن التوسع في نشاطاتها والتوظيف، بل قد تتجه نحو تقليصهما على حد سواء، نظرا إلى انكماش مستويات السيولة في الاقتصاد نتيجة ارتفاع تكلفة التمويل "الفائدة"، وزيادة المستهلكين للادخار على حساب الإنفاق الاستهلاكي تحوطا للأوضاع المستقبلية، وخوف فقدان الوظائف ومصادر الدخل بالنسبة إليهم، من جانب آخر تفضيل أصحاب الثروات الاحتفاظ بالسيولة وإيداعها في قنوات عالية السيولة، كالودائع مقابل فائدة مرتفعة في ظل الظروف الراهنة، أو حتى قنوات استثمار متدنية المخاطر إلى حين انتهاء الأوضاع الراهنة غير المفضلة من قبلهم.
ولا يقف الأمر عند ما تقدم ذكره، بل يذهب بعيدا نحو التسبب في انهيار عديد من البنوك في مختلف الدول، في مقدمتها الولايات المتحدة وأوروبا، والتسبب أيضا في إحداث تقلبات حادة في أسواق المال والدين وصرف العملات والعقار، ضمن إعادة تقييم واسعة النطاق لجميع الأصول الاستثمارية بمختلف أنواعها، قياسا على الواقع الجديد والصعب الذي فرض المستويات العالية لمعدل الفائدة، ويحدث كل ذلك بوتيرة متسارعة جدا تزامنا مع الارتفاع السريع جدا لمعدل الفائدة عالميا، كما شهدته الاقتصادات والأسواق طوال أقل من أربعة أشهر مضت، وتجاوزها أعلى مستويات لها خلال نحو عقدين من الزمن. وتزداد ضراوة الصراع الدائر بين الخصمين اللدودين "الفائدة والتضخم" باستمراره لفترة أطول مما كان في الحسبان، تزامنا مع بطء تراجعات التضخم، أو حتى عودته إلى الارتفاع في فترات متقطعة لاحقا، وقد يؤدي استمراره مع ركود أو تراجع الاقتصاد للدخول في مرحلة من التضخم الركودي، "مزيج يحدث في حالة ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو"، كما حدث للاقتصاد العالمي في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، واستغرق الخروج منه نحو عقد من الزمن بعد أن خلف وراءه كثيرا من الخسائر، ويعد تكراره خلال الفترة الراهنة أكثر وعورة على الاقتصاد العالمي، لما يواجهه من تحديات جسيمة لم تكن موجودة في تلك الفترة بعيدة الزمن، من أكبرها ارتفاع حجم الديون على الحكومات والشركات والأسر بمئات التريليونات من الدولارات، إضافة إلى الصراعات الجيوسياسية المنتشرة في أكثر من بقعة حول العالم، دون إغفال الصراعات التجارية بين الاقتصادات العملاقة عالميا، "الولايات المتحدة والصين" من جانب، والصراعات الناتجة عن العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي نتيجة حربه في أوكرانيا من جانب آخر.
على الرغم من الفترة الماضية الصعبة التي شهدها الاقتصاد العالمي، تزامنا مع الصراع الدائرة رحاه الآن بين البنوك المركزية "معدل الفائدة" والتضخم، وعدم تأكد مؤشرات السيطرة على التضخم، في الوقت ذاته الذي ما زالت الاقتصادات والأسواق تحتفظ بمعدلات نمو، وإن كانت متدنية، وما زالت معدلات البطالة في أدنى مستوياتها منذ أكثر من خمسة عقود زمنية مضت، فإن جزءا كبيرا مما يظهر على شاشة المشهد العام للاقتصاد العالمي، يشير إلى أن طريق هذا الصراع بين الفائدة والتضخم قد يمتد عدة أعوام مقبلة، وأن فترة الصراع قد تتجاوز التوقعات التي سبق تقديرها من كثير من المنظمات الدولية والبنوك المركزية، مع الأخذ في الحسبان "عنصر" المفاجآت غير المحتملة وغير المحسوبة لدى مختلف تلك المنظمات والبنوك، التي قد تحول مسار الأحداث والتطورات في أي اتجاه لم يكن في الحسبان!
الجزء الأخير أعلاه، يشير إلى الضبابية التي تطغى على أجزاء عديدة من المشهد العام الراهن، وما قد يترتب عليه من مفاجآت مباغتة! وقد حدث بعضها بالفعل، المتمثل في سقوط بنوك كبرى عالمية في دائرة الإفلاس والانهيار، وما "كريدي سويس"، و"فيرست ريبابليك بنك" وما سبقهما من بنوك أمريكية أفلست عنا ببعيد! لا خيار آخر أمام الاقتصاد العالمي بكامل منظماته ومؤسساته الدولية والبنوك المركزية، إلا أن يستمر في التصدي للتضخم، وأيضا لا مناص من سقوط بعض أمتعة الاقتصادات والأسواق كـ "ثمن" لهذه المواجهة المفروضة على الجميع، والتأكيد في خاتمة هذا المقال، وإن كان ثمنا باهظا ستتحمله الاقتصادات والأسواق حتى المجتمعات، إلا أنه يظل أقل تكلفة ومخاطرة من السماح بمزيد من ارتفاع التضخم، والتذكير أيضا أن قدرا كبيرا من التضخم الراهن، هو في الأصل ناتج عن، "أولا، إفراط سابق للبنوك المركزية في ضخ تريليونات الدولارات طوال أكثر من عقد زمني مضى. "ثانيا" تأخر غير محسوب العواقب من البنوك المركزية عن مواجهة التضخم في أوائل اشتعال فتائله مطلع 2021، وهي تكاليف مضافة بالتأكيد لما تعانيه الاقتصادات والأسواق خلال الفترة الراهنة، التي تشهد الصراع الساخن بين الفائدة والتضخم.
نقلا عن الاقتصادية
مقال جميل وموشح بالصناعة اللفظية في اختيار المفردات التي عادة يستعملها الادباء واهل اللغة ....يعطيك العافية ...لم تعطنا اي توقعات عن متى يبدأ الفيدرالي بتخفض الفائدة وان كنت اشرت ان الموضوع مطول .....السؤال : بما ان المركزي في كل بلد هو من يقرر قيمة النقد عبر الاليات المعروفة ...فعلى اي اساس تم قياس البنكنوت على الذهب والذي له قيمة مستقرة فيه ؟ ......تحياتي