القضاء التام على رداءة بناء المساكن

19/04/2023 8
عبد الحميد العمري

امتدادا مهما للحديث السابق الذي بدأ في المقال الأخير "حماية المستهلك.. درهم وقاية خير من قنطار علاج"، الذي تطرق إلى أهمية تأسيس برنامج وطني مشابه للبرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، ليتولى مهام ومسؤوليات الرقابة على جميع نشاطات الأسواق المحلية، والاضطلاع بالإجراءات الكفيلة بمنع أي ممارسات تستهدف الغش أو التدليس أو التلاعب بأسعار السلع والمنتجات والخدمات، وإيقاع أشد العقوبات والجزاءات والغرامات على المتورطين في أي من تلك الممارسات المخالفة، تبدأ من تجاوز تكلفة تلك "الحزمة" من الجزاءات والغرامات لإجمالي المكاسب غير المشروعة التي حققها المخالفون كإجراء رادع حقيقي، وتصل مع تكرار تلك الممارسات المخالفة، إلى إنهاء ترخيص المنشأة المخالفة، ومنعها من الاستمرار في النشاط أو السوق الذي نشطت فيه.

إن من أهم وأبرز المكاسب الكبرى لتلك الإجراءات النظامية المنشودة، يتمثل في تنقية وتطهير بيئة الأعمال المحلية من أي منشآت اعتادت على التورط في أي ممارسات مخالفة، تلحق الضرر بالاقتصاد الوطني وبالمجتمع عموما، وببيئة الأعمال المحلية خصوصا، وبما يؤدي إلى فرض بيئة أعمال تنافسية تقوم على ركائز رئيسة من النزاهة والثقة والاستقامة والعدالة، التي تخدم وتعزز من الاستقرار الاقتصادي والتنموي المستدامين، وتوفر الحماية اللازمة لمقدرات الاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء.

هنا يمتد الحديث للتأكيد على ما تقدم ذكره في الأجلين المتوسط والطويل للاقتصاد الوطني والمجتمع، ولبيئة الأعمال المحلية المستهدف الوصول بمساهمتها إلى أعلى من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، وأن يتمتع القطاع الخاص بالدرجة الكافية من الركائز الأساسية لأي بيئة أعمال في أي اقتصاد طموح، يأتي في مقدمتها التنافسية العالية، والنزاهة والموثوقية، والصلابة والثبات والاستقرار، بما يؤدي إلى مزيد من الاجتذاب الأمثل للثروات والاستثمارات المحلية والأجنبية، التي تقوم قرارات واستراتيجيات ملاكها بالدرجة الأولى على توافر تلك الركائز من عدمها، ولعلاقتها الكبيرة بمعايير المفاضلة بين مختلف الاقتصادات والأسواق، وهذا -ما تقدم ذكره من اعتبارات تحمي بيئة الأعمال- بكل تأكيد ما سيمنح الاقتصاد السعودي ميزة إضافية تضاف إلى كثير من المزايا التي أصبح يتمتع بها -بحمد الله تعالى- نتيجة الإصلاحات الواسعة جدا، التي شهدها اقتصادنا الوطني منذ منتصف 2016 حتى تاريخه، وستمتد حتى حلول 2030 تحت مظلة رؤيته الاستراتيجية الشاملة.

إن اقتصادا بحجم الطموحات العملاقة التي يستهدف تحقيقها، كاقتصادنا الوطني بحلول 2030، جدير عن استحقاق كامل بأن يحتزم بالبرامج الوطنية اللازمة لحمايته من أي ممارسات مخالفة، وأن يحتزم بكل ما يرسخ أعلى درجات التنافسية والنزاهة والموثوقية في جميع نشاطاته، وعلى رأسها بكل تأكيد بيئة أعماله المحلية، التي تستهدف رؤية المملكة أن تكون بيئة تنافسية دولية، تتجاوز بطموحاتها الأبعاد المحلية والإقليمية وصولا إلى أقصى أبعادها الدولية. ومن أهم ما يتطلبه الوصول إلى تلك الغايات الاستراتيجية طويلة الأجل وعملاقة الحجم، التخلص من مثل تلك الممارسات المخالفة التي لا ولن يتواءم وجودها حتى في أضيق الحدود مع التطلعات فائقة الطموح لاقتصادنا الوطني.

وعلى أنه ينبغي ألا يتم التفريق بين ممارسات مخالفة تتعلق بسلع ومنتجات صغرى وأخرى كبيرة الحجم، إلا أنه سيكون من الأهمية القصوى البدء بصورة فورية بمحاربة الممارسات المخالفة على طريق سوء استغلال ثقة المستهلك، في مجال المنتجات والسلع ذات الثقل الأكبر في ميزانية المستهلك، التي يأتي في مقدمتها ما يتعلق بمنتجات الإسكان والسلع المعمرة، كالسيارات والمعدات، وهنا تتقدم الأهمية القصوى لمحاربة أي ممارسات تنطوي على الغش والتدليس والتلاعب في الأسعار في مجال الإسكان على ما سواها من الاعتبارات، كونها تتطلب القدر الأكبر من إنفاق أي مستهلك طوال حياته، ولما يمثله من وزن كبير جدا في ميزانيته والتزامه الائتماني طويل الأجل، إضافة إلى آثاره المالية والمعيشية التي في الأغلب ما تمتد حتى نهايته عمره الوظيفي، بل قد تتجاوزه إلى ما بعد سن التقاعد!

لا يزال هذا الجانب ثقيل الوزن على أي مستهلك، يعاني كثيرا من التحديات المرتبطة إما بتضخم غير مبرر في السعر، وإما بانخفاض جودة البناء والتشييد والتصميم، وقد تصل إلى سوء المسكن وعدم إمكانية المستهلك وأسرته من السكن فيه، تتزامن مع ارتباطات مالية وائتمانية طويلة الأجل سيتحملها المستهلك لنحو عقدين من الزمن، وقد تصل إلى ثلاثة عقود زمنية. يشير عديد من تلك الحالات التي طالما تكررت مشاهداتها في عديد من المدن والمحافظات، إلى اصطدام المستهلك الضحية بكثير من المعوقات التي ترفع عنه الأضرار المترتبة على تورطه في أي من تلك المنتجات السكنية الرديئة، ويكفي هنا الإشارة إلى المقارنة بين حال كل من البائع والمشتري لذلك المسكن الرديء الجودة بعد إتمام المبايعة! بالوقوف على حال كل طرف من الطرفين، الذي يشير إلى دخول المشتري في طريق طويل جدا لم ولن تجد له نهاية معلومة، من الإجراءات والمراجعات والشكاوى لأجل رفع الضرر الواقع عليه، ومحاولة استرداد أمواله ووقف تحمله للأعباء المالية والائتمانية الواقعة عليه، وكل ذلك نتيجة لعدم وفاء الأطراف المقابلة له "البائع، جهة التمويل إن وجدت" بالجودة اللازمة للمسكن الذي تسلمه. بينما في المقابل، ستجد البائع وجهة والتمويل -إن وجدت- يتقاذفان زمنا طويلا تحمل مسؤولية ذلك الضرر الفادح الذي وقع على المستهلك، ما سمح في أحد آثاره باستمرار تلك الحالات حتى تاريخه، ودون قيام ما يردع آخرين عن تكرارها.

يبدأ الحل الرادع في مثل تلك الحالات، أولا من إبطال المبايعة وتخليص المستهلك من تحمل أي التزامات مادية وائتمانية، ثم تعويض المستهلك ماديا عن أي أضرار قد تكون وقعت عليه، وتحمل المتسببين في تعويضه لاحقا بفروقات ارتفاع أسعار شراء المسكن نفسه إذا وجدت! ويترك النزاع القضائي قائما ومحصورا بين البائع والجهة التمويلية -إن وجدت- ولا علاقة للمستهلك في ذلك النزاع، بعد أن تم رد حقوقه والتعويضات اللازمة له، ولا يقف الأمر عند نهاية الحكم القضائي الفاصل بين البائع والجهة التمويلية، بل تستكمل الإجراءات النظامية التي تمتد إلى مساءلة المقاولين والمطورين للمساكن الرديئة الجودة، واتخاذ العقوبات والجزاءات الرادعة بحقهم، وفق ما سينص عليه البرنامج الوطني المقترح تأسيسه لحماية المستهلك.

 

نقلا عن الاقتصادية