تصنع الدول سياساتها العامة والقطاعية منطلقةً من رؤيتها الوطنية. ونتمتع بحمد الله ثم قيادتنا الرشيدة، برؤية واضحة تجاه المستقبل من خلال رؤية المملكة ٢٠٣٠. وما لبثت رؤية المملكة أن انطلقت وحددت مستهدفات المملكة، إلا وقد تبعتها السياسات والبرامج والاستراتيجيات ذات العلاقة، في مقالي السابق، اجتهدت للتعريف بالاستراتيجية القطاعية والسياسة القطاعية، والفرق بينهما، وطريقة تكاملهما. نبحر في هذا المقال لالقاء نظرة على السياسات القطاعية، وتجارب الدول المختلفة، في محاولة لتأمل التجارب العالمية في رسم السياسات القطاعية.
ب- أنواع السياسة القطاعية:
لابد أن نوضح بأنه وحتى تتحقق الاستراتيجيات، فإنها تحتاج إلى سياسات، والتي ترسم مقاصد الدولة تجاه قطاع اقتصادي محدد. السياسات القطاعية نوعان وهي كما يلي:
١- سياسة مفتوحة تعتمد على قوى العرض والطلب وتترك للسوق تحديد مصيره.
٢- سياسة تتطلب تدخل الدولة نحو توجيه القطاع لتحقيق نتائج اقتصادية محددة.
اتبعت دول اوروبا والولايات المتحدة سياسات مفتوحة. وقد اتبعت ذلك النموذج في زمن لم يكن العالم فيه مترابطاً تقنياً ولوجستياً كما هو الحال في آخر مائة عام. نهضت الولايات المتحدة واوروبا صناعياً في وقتٍ مبكر سبقت فيه بقية دول العالم في ذلك الوقت، وبعد اعوام من نهضة الصناعة الامريكية والاوروبية، ومع نهوض الصناعة في القارة الآسيوية، اضطرت الدول النامية صناعياً لتبني سياسات اكثر تشدداً حيث (تضطر) الحكومات للتدخل في الاقتصاد بشكل جزئي أو كلي لتوجيه السوق لما يخدم نهضة قطاع محدد، مما يعني النموذج الثاني من نماذج السياسات القطاعية.
ج- اتجاهات الدول في رسم السياسات القطاعية:
عندما نتحدث عن رسم السياسة القطاعية، لابد أن نجيب أولاً عن سؤال مهم. هل ستكون السياسة التي نحاول رسمها سياسة تابعة أم سياسة مبتكرة، بعيداً عن سياسة السوق المفتوح، السياسة التابعة هي مثل السياسة الكورية واليابانية في الصناعة، وهي تعتمد على محاولة الوصول إلى الجودة الأوروبية والألمانية وجودة صناعة الولايات المتحدة الأمريكية. يلي ذلك العمل على خفض التكلفة ورفع كفاءة الإنتاج بالمزامنة مع الحفاظ على الجودة فيما يعرف حالياً بالتميز التشغيلي. يلي ذلك رفع الطاقات الإنتاجية للحد الأقصى الممكن عبر الأتمتة.
أما السياسة الصينية الحديثة، فقد اتبعت منهجاً جديداً وجريئاً في ذات الوقت. اطلقت السياسة الصينية العنان للتعرف على الأبعاد المجهولة، وتبنيها، والقفز لمقدمتها، والاستثمار فيها. وهذا ما ساعد الصين على تبني الرقمنة ومعالجة البيانات، والقفز إلى مقاعد الريادة في التقنية. وبهذا أصبحت الصين منافساً شرساً للمنتجات الأوروبية والأمريكية. وهذه السياسة الصينية تحاكي مزيجاً من السياستين أعلاه. ولا يمكن القول بأن السياسة الصينية جاءت بالنجاح دفعة واحدة، إذ أن الصين حاولت مراراً ابتكار سياسات متشددة جداً تتحكم في مفاصل الإقتصاد بشكلٍ دقيق، إلا أنها باءت بالفشل. وبعد العديد من المحاولات، نجحت الصين أخيراً في ابتكار سياسة تنهض بالعديد من قطاعاتها الاقتصادية.
د- مكونات السياسة القطاعية:
وحتى تنفذ السياسة القطاعية، فإنها تحتاج إلى ميزانيات موجهة للقطاع محل السياسة وذلك لتنفيذها، وهو ما يطلق عليه بالموارد. كما تحتاج السياسة القطاعية إلى قياس مستمر للأثر على القطاع، وقياس لأثر السياسة على الاقتصاد ككل. وفي ما يلي بعض التفصيل في ذلك:
أولا: الموارد:
وهي التكلفة الحقيقية للسياسة، وتضم:
١- تكلفة الدعم المالي المباشر من الحكومة للقطاع المستهدف بالسياسة مثل الاعانات والدعم المالي بأنواعه. وفي هذا الدعم ما يتفق مع التزامات الدول في منظمة التجارة العالمية، ويطلق عليه (حوافز)، ومنها ما هو خلاف ذلك ويطلق عليه (دعم)، أما بالنسبة للتحفيز من خلال النظام الضريبي مثلاً، فإنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: خفض الضرائب والرسوم الحكومية لجذب الاستثمارات لقطاع محدد. ويتم هذا العمل من خلال مزيج من التخفيضات في نسب الضرائب والرسوم الحكومية بأنواعها بهدف جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية.
الثاني: زيادة مزيج الضرائب والرسوم الحكومية على قطاعات اقتصادية محددة في حين أن المقصود هو الدفع بالمستثمرين للقطاع الآخر المستهدف بالتنمية.
٢- الدعم الحكومي غير المباشر والمتمثل في سن الأنظمة والتشريعات الموجهة للقطاع المستهدف بالتنمية من خلال السياسة. وكما هو الحال مع الدعم/ التحفيز المالي الحكومي المباشر، فإن الدعم غير المباشر بالأنظمة والتشريعات قد يكون موجهاً للقطاع محل السياسة بغرض جذب الاستثمارات، أو موجهاً نحو بقية القطاعات الأخرى والتي ليست محل السياسة، مما يدفع بتدفق الاستثمارات نحو القطاع المستهدف بالسياسة.
ومن الأمثلة على سياسات الدعم غير المباشر في الأنظمة والتشريعات خفض اشتراطات ممارسة الأعمال في قطاع محدد، أو خفض اشتراطات الاستثمار الأجنبي في قطاع محدد، أو خفض أو ورفع اشتراطات الإستيراد لمنتج ما، وهكذا من الأنظمة والتشريعات التي تهدف لجذب المستثمرين لقطاع محدد. وفي المقابل، فإن زيادة التعقيد في الأنظمة والتشريعات في القطاعات، قد يدفع بالمستثمرين نحو قطاعات أخرى قد تكون مستهدفة للقطاع محل السياسة. وحتى لا يُفهم بأن التعقيد من عدمه في الأنظمة والتشريعات يهدف إلى جذب الاستثمارات فقط، فقد يكون من المقاصد حماية المعرفة في القطاعات (عدم تدفق المعرفة خارج الدولة)، أو الأمن الصحي أو الغذائي أو الدفاعي. وبالتالي، قد تتعدد مقاصد المشرع.
٣- تكلفة تشوه السوق، حيث أن التدخل الحكومي لتوجيه قطاع محدد نحو مستهدفات محددة، عاملةً في ذلك الموارد، والتدخل المباشر وغير المباشر، قد يؤدي إلى تشوه في السوق بشكلٍ ما.
وقد يكون اعتماد المستثمر على الدعم الحكومي سواءً الدعم المادي أو التشريعي والتنظيمي أحد مظاهر تشوه السوق، إذ أن الأثر الاقتصادي المباشر وغير المباشر للإستثمار قد يزول بتوقف الدولة عن هذا الدعم. فعلى سبيل المثال، عندما تغير دولة ما من أنظمة تدفق الأموال إلى خارج الدولة، فإن لذلك أثر مباشر على الاستثمارات ذات العلاقة ومنها الشركات متعددة الجنسيات، وبالتالي تصبح تكلفة السياسة هي ما ستنفقه الحكومة فعلياً على القطاع المحدد، بالاضافة إلى الانظمة والتشريعات، بالاضافة الى تكلفة تشوه السوق أثناء وبعد زوال ذلك الانفاق.
ثانياً: اثر السياسة على القطاع:
وهي مقدار المنفعة الاقتصادية التي احدثتها السياسة على القطاع، مطروحاً منه أداء القطاع عبر النمو الطبيعي وقبل دخول السياسة حيز النفاذ. ولمعرفة جودة الأثر، تتم المقارنة عالمياً مع دول مارست سياسات أخرى لذات الهدف لتحليل النتائج وتكلفتها.
ثالثا: كفاءة السياسة:
وتعني تكلفة حصول المنفعة الاقتصادية من السياسة التي تم تنفيدها مقارنة بتكلفة السياسة على الدولة، بالمقارنة مع الممارسات العالمية لسياسات ونتائج في ذات القطاع. وتستطيع الدولة تقييم مدى كفاءتها في تنفيذ سياسة قطاع محدد للوصول للأهداف مقارنةً بالحكومات الأخرى، واستخراج الدروس المستفادة من التجربة لتصحيح الانحراف والتحسينن.
خلاصة:
من وجهة نظري، إن السياسة القطاعية الفعالة تضع اطاراً عاماً للتأثير على صناعة القرار نحو القطاع المستهدف بالتنمية. ومن خلال مزيج من المكونات (الدعم والحوافز) المباشرة وغير المباشرة، والتشريعات والأنظمة العامة والخاصة بالقطاعات المختلفة، يتم رسم سياسة تعزيز تنمية القطاع المستهدف. وتلعب جميع القطاعات الاقتصادية المختلفة دوراً مهماً في تعزيز تنمية بعضها البعض، إذ يتم تشديد الأنظمة والقيود في اتجاه، وخفضها في الآخر. وهكذا في منح الحوافز لقطاعات وخفضها في القطاعات الأخرى. وبالتالي تصبح جميع القطاعات، وبشكل غير مباشر، تدعم تعزيز تنمية القطاعات المستهدفة.
إن أصبت فمن الله، وإن اخطأت فمن نفسي.
أخوكم
البدر فودة
خاص_الفابيتا