فهم طبيعة النظام المصرفي لتخفيف أزماته

20/03/2023 1
د.صالح السلطان

يعرف الإخوة القراء حصول أزمات مؤلمة بنكية وبصفة أعم مالية، على رأسها ما حصل لبنك سيليكون فالي الأمريكي قبل أيام. ووراء تلك الحوادث ما وراءها من عوامل وثغرات. وهذه الحوادث ليست الأولى. أول أزمة معتبرة في العصر الحديث وقعت مطلع القرن الميلادي الماضي، وكانت وراء وضع نظام البنك المركزي الأمريكي الفذ، فهم طبيعة النظام المصرفي وطريقة عمله، تساعدان على فهم كيفية حدوث أزمات مصرفية بين وقت ووقت في بعض الدول، لا تؤسس أو توسع الأعمال التجارية لولا الإيمان والأمل بأن التحرك اليوم يؤدي إلى مزيد من الأموال غدا. والتأسيس والتوسع يحتاجان إلى تمويل، ويأتي في الأغلب من طريقين: استعمال الأرباح السابقة و/أو الحصول على تمويل من مصدر خارجي.

التمويل الخارجي يمكن أن يأتي عن طريق إصدار أسهم جديدة أو ما يسمى "تمويل بالمساهمة أو المشاركة"، ويمكن أن يأتي عبر شكل من أشكال الاستدانة، أو ما يسمى "تمويل بالدين"، سواء من البنوك والمؤسسات التمويلية الأخرى أو الأفراد "سندات". وهنا يظهر فرق جوهري. التمويل بالدين لا يؤثر في توزيع الملكية، لكن له اشتراطاته ومنها أولوية السداد. أما التمويل بالمساهمة فيؤثر طبعا في توزيع الملكية. وصاحب التمويل ينظر إلى قيمة الأسهم والأرباح المتوقعة في المستقبل.

الخطوة التالية معرفة آلية توفير التمويل للأفراد والمؤسسات والحكومة. بدلا من التعامل الشخصي، تعامل بين شخص وشخص، لعمل صفقات مالية، تطورت مؤسسات لتجميع مبالغ صغيرة من المال من كثير من الناس في وعاء مشترك. ظهرت البنوك لتقوم بوظيفة الوساطة لجمع المال من مجموعة وجعلها متاحة لمجموعة أخرى من الناس. وتحقق البنوك أرباحا من الفرق بين ما تدفعه للمودعين وما تتقاضاه على تمويلها، ما كان ممكنا للبنوك أن تنجح في الوساطة المالية لولا أن المودعين لا يطلبون أموالهم في الوقت نفسه. وتحتفظ البنوك بنسبة صغيرة نسبيا من النقود بصورة سائلة لتلبية المسحوبات النقدية اليومية، ومواجهة طلبات العملاء.

عاملا الوقت والمخاطرة جزءان أساسيان في عمليات البنوك. وتمويلات البنوك هي في الحقيقة مطالبات على تدفق نقدي مستقبلي. بالطبع، لا تتوقع البنوك أن تسدد كل قروضها وبالكامل، لكن التخلف عن السداد أو التعثر فيه يزداد في حالات، كحالة العطالة وحالة الركود غير المتوقعة، وتحسبا لهذه الاحتمالات، تبقي البنوك احتياطيا، يتكون من حصة ثابتة من المال المودع ونسبة من أموال أصحاب البنك. كما تتخذ السلطات النقدية تدابير وتنظيمات احترازية. كما يفترض أن تقوم الممارسات المصرفية على الحكمة، لأن أول مال تطبق عليه الخسارة هو رأس المال "مال ملاك البنك". الجري خلف البنك يحدث عندما يشعر المودعون أن البنك على وشك الإفلاس. وعندما يندفع الناس إلى البنك، فإنه لا يقدر على توفير إلا بعض النقدية. وهذا يجر إلى مشكلة غلق الباب. وهذا ما حدث في الدول الغربية أولا، وفي دول أخرى لاحقا عبر عشرات الأعوام الماضية وهذه الأيام.

وزيادة في إيضاح ما سبق، هناك ثلاثة أركان في النظم المالية القائمة: النقود الاسمية fiat money "أي التي اكتسبت ثقة الناس بقوة القانون، لكن لا قيمة لها لذاتها كالنقود الورقية في الوقت الحاضر"، ونسبة الاحتياطي، المصرفي والبنوك المركزية.

تعمل الأنظمة المصرفية في عامة الدول وفق مبادئ أهمها:

تقرض البنوك أكثر مما تأخذ، ومن ثم يكون حجم الودائع أكبر بكثير من حجم النقود الموجودة في البنوك "النظام المصرفي" المتاح دفعها للمودعين. ولذا لا يمكن للمصارف بأي حال من الأحوال أن تلبي طلبات المودعين، لو طلبوا جميعا سحب ودائعهم في الوقت نفسه، لأن معظمها ببساطة غير موجود أصلا، ولو حدث أن طلبوا فهذا يعني انهيار النظام المصرفي، سياسة التمويل "الإقراض" في البنوك تقوم على أساس توظيف ما يسمى "نسبة الاحتياطي". ويعني ذلك عمليا أن بإمكان البنوك صنع عدة ريالات من كل ريال يودع فيها. وهذا يفسره البعض بأنه شكل من أشكال الاحتيال، وسواء قبلنا هذه التسمية أو لا، فهو مقنن بقوة القانون.

ما سبق يجعل فشل النظام المصرفي أمرا محتملا، ولذا أنشئت البنوك المركزية لتكون الملاذ أو المقرض الأخير، لإبقاء الثقة بالنظام المصرفي. تتحكم البنوك المركزية في عرض النقود، عبر التحكم في الاحتياطي، يتيح النظام النقدي والمصرفي لبعض الدول، خاصة صنع النقود بتكلفة منخفضة جدا. وتمارس أمريكا شيئا من هذا القبيل، بما يشبه تحويل النحاس إلى ذهب، بالنظر إلى كون الدولار العملة العالمية الأولى. وقد يقود ذلك إلى حديث عن هدف تمويل العجز الأمريكي. وتمويل العجز الأمريكي على حساب الآخرين ليس جديدا، فالدولار عملة الاحتياط العالمية الأولى منذ عقود، ولا يلوح في الأفق القريب أن هذا سيتغير، لأن الثقة بأوراق الحكومة الأمريكية ونظامها السياسي لم يهتزا. وهذا يعطي الولايات المتحدة قوة في استيراد بضائع وخدمات من الدول الأخرى، وتمويل عجزها، الذي تسبب في بعضه ضخامة إنفاقها العسكري وغير العسكري. ومقابل هذا التمويل إعطاء سندات أمريكية ورقية. ولم لا؟ فالدولار سهل إنتاجه وبتكلفة منخفضة جدا لسداد مستحقات الناس.

كل ما سبق له آثاره ويسهم في صناعة ثغرات تنظيمية، في أمريكا خاصة، بالنظر إلى عوامل على رأسها عالمية الدولار. وزادت حدة المشكلة مع التطورات التقنية. تطورات ترفع من حالة الذعر بين الناس عند وقوع الشدائد، لذا فإن البنوك المركزية في العالم مطالبة بوضع تنظيمات وقواعد رقابة مالية مصرفية أقوى. ومن المهم كثيرا إخضاع كل الودائع البنكية إلى تأمين قوي مدروس جيدا. كيف؟ موضوع طويل. من يتحمل التأمين؟ يتطلب الأمر وضع قواعد ومعايير تراعى من هم الأكثر استفادة ومن هم الأقدر.

 

نقلا عن الاقتصادية