يشهد العالم اختلالات شديدة في العرض والطلب وجانبيهما الإنتاج والاستهلاك. اختلالات قديمة اشتدت حديثا مع موجات الديون وكارثة كورونا وحرب روسيا وأوكرانيا وقضايا البيئة والمناخ والهدر.
وكلمة استهلاك وحدها يقصد بها عادة الاستهلاك الخاص. وتلك الاختلالات أحد أسباب ما يشهده العالم من تضخم.
ذلك أن تحقق توازن بين العرض والطلب في الاستهلاك وغيره صعب. لماذا؟ لعدة أسباب على رأسها كون العلاقة عادة وباستمرار عكسية بين الأسعار والكميات المطلوبة من السلع.
أو ما يسمى تقنيا قانون العرض والطلب. محور القانون أن ارتفاع الأسعار يدفع إلى تقليل الشراء. أما انخفاضها فيغري المستهلكين والمشترين عامة بزيادة مشترياتهم. فقد خلق الله البشر محبين للمال والدنيا. وهذا الحب أداة لتعمير وبناء الاقتصادات. مثلا، الاستهلاك الخاص هو المحرك الأول لنمو الاقتصادات في أغلبية الدول.
ما سبق يثير أسئلة من قبيل، ما اتجاهات الاستهلاك وعلاقتها بالادخار وتطوير الاقتصادات وترسيخ نموها؟ كان هذا في لب الندوة الاقتصادية الربعية التي أقامها البنك المركزي السعودي الأسبوع الماضي.
ما سبق يفتح النقاش حول توازن العرض والطلب.
وهذا التوازن أساسه وجود علاقة عكسية بين العرض والطلب، ولذا هو مرتبط بالوقت. أي أن التوازن بين عرض وطلب بعينه وقتي، يتغير مع مرور الوقت. مثلا، قد يزداد كلاهما، أي تزيد أسعار السلع والخدمات زيادة كبيرة، وفي الوقت نفسه، تزيد الكميات المشتراة/المستهلكة من هذه السلع والخدمات زيادة كبيرة.
هذا حصل للعالم بعد كارثة كورونا. تسببت الإجراءات المتخذة لمحاربة الكارثة في خفض كبير للاستهلاك.
لكنه خفض مؤقت جلب لاحقا سلوكا معاكسا. وهذه من طبيعة البشر فقد خلق الإنسان هلوعا. مع رفع أو تخفيف الإجراءات حصل اندفاع ونمو كبير على المستوى العالمي في الاستهلاك والشراء عامة، وحصل تضخم ملموس.
هل حصول الزيادتين فيه تناقض مع قانون العلاقة العكسية بين الأسعار والطلب؟ بمعنى هل يصلح أن نناقض هذه العلاقة العكسية استنادا -مثلا- إلى ارتفاع الطلب على السلع، خلال فترة كذا، مقرونا بارتفاع أسعارها خلال الفترة نفسها؟
قد يفهمها بعض الناس على أنهما متناقضتان. لكنهما ليستا كذلك. الأولى صحيحة والأخرى صحيحة.
ارتفاع الأسعار يخفض الطلب لكنه قد يقابل بزيادة الدخل حقيقة أو شكلا أو بخفض الادخار أو بالاستدانة، ما يزيد الطلب. وهذا ما حصل. وصافي التأثير للأقوى منهما. وهذا من حيث الأصل والمبدأ، وهناك تفاصيل لا بد أن تراعى.
من التفاصيل، أن بعض الناس يزيد طلبه بنسبة تتفاوت مع زيادة الدخل نفسه. من التفاصيل، التفاوت الكبير بين الناس في تأثرهم بتغير الأحوال والظروف الوقتية مثلا.
رغم أن المبدأ هو أن ارتفاع الأسعار يخفض الطلب، لكن بعض السلع تكتسب سمعة وقيمة معروفة، بحيث لا يتوقع أن أسعارها تقل عن مستويات كذا.
ولو عرضت بأسعار منخفضة عن تلك المستويات لزهد فيها الراغبون في شرائها.
هل ينقض هذا الزهد قانون الطلب؟ لا. لكل مقام مقال. يجب فهم كل قانون اقتصادي في نطاقه وفي المعنى الذي يتناوله.
هذه مشكلة يواجهها بعض من يكتب عن تأثير متغيرات في متغيرات.
في العادة يكون الحكم على المبدأ، دون إنكار لوجود تفاصيل، لكن بعض الناس يعترض استنادا إلى تفاصيل مع تجاهل المبدأ.
عند طرح آراء تبنى على مبدأ، قد يعترض معترضون بناء على حالات خاصة، فيرفضون المبدأ، ويوسعون الحالات الخاصة، ولو تمعنوا لوجدوا أن تلك الحالات تقيد المبدأ، دون أن تلغيه.
تطبيقا، أجريت دراسات عديدة جدا في الدول الصناعية على تأثير الهجرة إليها في الأجور في تلك الدول.
وهذا يشبه من وجوه كثيرة استقدام اليد العاملة للعمل في دول الخليج. الفهم المبدئي أن الهجرة أو الاستقدام تزيد في عرض اليد العاملة، وهذا يعني انخفاض أسعارها "الأجور".
لكن ذلك ليس صحيحا دوما. لكنه المبدأ، أي العادة والأغلب.
أجريت عدة دراسات في أمريكا "وربما في غيرها أيضا"، ودلت على أن الهجرة لا تتسبب في خفض الأجور.
كيف؟ تلك الدراسات أجريت على مدن مثل ميامي ونيويورك التي شهدت موجات كبيرة من المهاجرين ولم تشهد هبوطا في الأجور، مقارنة بمدن ومناطق حضرية أخرى استوعبت مهاجرين أقل عددا، لكن الأجور فيها انخفضت.
الطلب على اليد العاملة في المجموعة الأولى قوي، بخلاف الثانية، ولذا فالأمر ليس متعلقا بقدر تحرك العرض فقط بسبب الهجرة، بل أيضا بقدر تحرك الطلب.
قدر تحرك الطلب على العمل يعتمد على تغير الظروف المؤثرة فيه، وقدر تحرك العرض يعتمد على مدى سهولة الهجرة، بافتراض بقاء حجم اليد العاملة المحلية دون تغيير.
ما الذي يحدث للأجور لو زاد الطلب، وبقيت الأشياء الأخرى على حالها، مثلا لم تكن هناك هجرة أصلا؟
سيكون هناك عجز عمل، ما يضغط على الأجور لترتفع، ويزيد عدد الراغبين في العمل، حتى الوصول إلى نقطة توازن جديدة.
أجور العاملين في الشركات ارتفعت، ما يعني ازدياد التكاليف التشغيلية.
وتبعا لذلك ترفع الشركات عادة أسعار منتجاتها. وهكذا في دوامة زيادة أجور، فزيادة أسعار ... إلخ.
الخلاصة، إن قانون العرض والطلب مؤكد. لكن ذلك لا يتناقض مع وجود عوامل متغيرة باستمرار، يتأثر بها العرض و/أو الطلب، وقد يتوهم الواحد بسببها أن القانون محل شك.
والوقائع الاقتصادية، بطبيعة الحال، أكثر تعقيدا في العادة من التوضيح السابق. وقانون العرض والطلب لا يكفي وحده لفهم هذه التعقيدات، ورغم ذلك فهو يبقى الأساس.
نقلا عن الاقتصادية