من يدفع ثمن سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي؟

12/12/2022 0
عبد الحميد العمري

هل يوجد مبرر مقبول للتصريح الأخير الصادر عن رئيس "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي، بقوله، "إنه على استعداد لأن يعاني الاقتصاد بعض الألم، من أجل خفض التضخم الذي وصل قريبا من أعلى مستوياته خلال 40 عاما مضى، وإنه ينبغي أن يكون ذلك أكثر وضوحا في التوقعات الجديدة"، وإن "المعدلات مرتفعة الفائدة ضرورية لفترة أطول، حتى مع وجود مؤشرات على ضعف الاقتصاد، وكل ذلك من أجل دفع الأسعار المتضخمة نحو الانخفاض، وإنه لا يريد أن يرتكب خطأ من خلال التراجع قبل الأوان في خضم المواجهة الشديدة الآن مع التضخم!"، وإنه لا يريد تكرار مثل هذا الخطأ "الذي ارتكب في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وتسبب في تعزيز التضخم المرتفع باستمرار، الذي دفع بدوره بالبنك الاحتياطي الفيدرالي، إلى إحداث ركود حاد لإعادته إلى الانخفاض".

وكان "الاحتياطي الفيدرالي" قد قام برفع معدل الفائدة منتصف السبعينيات الميلادية إلى أعلى من 13.3 في المائة خلال حزيران (يونيو) 1974، لمواجهة ارتفاع التضخم الذي وصل خلال الشهر نفسه إلى 10.9 في المائة، ليبدأ لاحقا بخفض معدل الفائدة حتى 4.17 في المائة بنهاية 1976، لكن التضخم الذي لم ينخفض عن 4.9 في المائة طوال الفترة، عاد إلى الارتفاع حتى بلغ ذروته بنهاية الربع الأول 1980 عند 14.8 في المائة، وظل "الاحتياطي الفيدرالي" يلاحق ارتفاع التضخم دون جدوى إلى أن وصل بمعدل الفائدة إلى 22.0 في المائة بنهاية 1980، واستغرق الشد والجذب بين "الفيدرالي" والتضخم فترة تجاوزت ستة أعوام حتى نهاية 1986 التي انخفض التضخم فيها إلى 1.1 في المائة، ليدخل الاقتصاد الأمريكي فترتي ركود، الأولى خلال 1980، والأخرى الأطول خلال 1981 - 1983، رافقها ارتفاع البطالة إلى أعلى مستوياتها آنذاك إلى 10.8 في المائة، وظلت عند مستويات قياسية طوال الفترة 1981 - 1987.

أين كان جيروم باول من هذا الرأي الذي يتبناه اليوم في العام الماضي؟ لقد كان بعيدا جدا عنه، فلم يلفت انتباهه تصاعد التضخم مطلع العام الماضي، الذي بدأ يقفز بسرعة من آذار (مارس) 2021، ولم يلق أي بال للتحذيرات المتكررة من أغلب الاقتصاديين الأمريكيين آنذاك، وطالما رد بأنه لا يتجاوز كونه "تضخما عابرا"، ولم يبدأ "الاحتياطي الفيدرالي" بمواجهته إلا بعد عام كامل، حينما تخطى 8.5 في المائة!

إن كان باول لا يريد أن يكرر خطأ السبعينيات وأوائل الثمانينيات، على حد قوله، فقد ارتكب خطأين جسيمين كانا أكبر مما حدث قبل أربعة عقود، الأول ممثلا في تأخر "الاحتياطي الفيدرالي" في مواجهة التضخم في بداياته الأولى، وما ترتب عليه من زيادات قياسية في حجم الائتمان البنكي، أدت إلى ارتفاع إجمالي ديون القطاعين العام والخاص عالميا إلى أعلى من 350 في المائة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بنهاية 2021، وتجاوزت نسبة تلك الديون في الولايات المتحدة نفسها سقف 420 في المائة، كأعلى نسبة مقارنة بما كانت عليه أثناء فترة الكساد الكبير وبعد الحرب العالمية الثانية.

والخطأ الآخر ممثلا في إجراءاته الراهنة بالرفع المطرد لمعدل الفائدة، وما ترتب على كل من الخطأين الأول والآخر من تبعات مريرة على الاقتصاد الأمريكي نفسه، وعلى الاقتصادات والأسواق العالمية، والويلات التي جرها على الدول الأضعف نموا والأعلى مديونية بالدولار وانهيار عملاتها في أسواق الصرف العالمية، وما ترتب عليها من ارتفاع معدلات التضخم فيها إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، أدت إلى زعزعة استقرارها السياسي والاقتصادي والمالي.

هل ما يقوم به "الاحتياطي الفيدرالي" الآن تصحيح لتلك الأخطاء على حساب الاقتصادين الأمريكي والعالمي أيضا؟ وباعتراف أغلب أعضاء "الاحتياطي الفيدرالي" وعلى رأسهم بأول، أن دخول الاقتصاد الأمريكي والعالمي في ركود محتمل قبل منتصف العام المقبل، وما قد يترتب عليه من ويلات على الأسواق والمجتمعات من ارتفاع للبطالة، وسقوط الأسواق في موجات هابطة، وتآكل لقيمة عملة كثير من الدول النامية، على سبيل المثال لا الحصر، يعد أمرا "مقبولا" لديهم، وكل ذلك لا مانع من حدوثه لأجل إعادة التضخم في الولايات المتحدة إلى 2.0 في المائة فما دون! أم أن ما يشهده العالم اليوم بأسره من قرارات متسارعة جدا برفع معدل الفائدة ليس إلا خطأ ثالثا، سيترتب عليه ما لا تحمد عقباه في العامين المقبلين على أقل تقدير؟ وماذا يحمل المستقبل المتوسط والطويل الأجل بعد سياسات "الاحتياطي الفيدرالي" الأمريكي تلك؟

لم تكن فقط تلك أخطاء "الاحتياطي الفيدرالي"! فقد سبقتها أخطاء كثر، لعل من أكبرها سياساته التي أدت إلى سقوط الاقتصاد العالمي في الأزمة المالية العالمية 2008، عدا أدواره السلبية بالضغط على صندوق النقد والبنك الدوليين طوال العقود الماضية، وتسببه في كثير من الأزمات الاقتصادية الكبرى في أمريكا الجنوبية وشرق آسيا وعديد من دول منطقة الشرق الأوسط، وما ترتب عليها من كوارث عظمى عصفت باستقرار دول تلك المناطق من العالم، ويشاهد العالم بأسره خلال الفترة الراهنة تكرارا لتلك السياسات، تجاوزت وستتجاوز بآثارها السلبية عالميا جميع ما سبق من أزمات!

التجربة التاريخية الطويلة للعالم مع "الاحتياطي الفيدرالي"، تبين أن أغلب سياساته تقوم على منطق معالجة الخطأ بالخطأ، وأنه "مقبول" لديه أن يتحمل أطراف أخرى دفع ثمن تلك الأخطاء سابقا ولاحقا! وعليه يحق لبقية الدول والاقتصادات في مختلف أنحاء العالم، أن تتكامل جهودها بحثا عن البدائل الأكثر أمانا والأدنى مخاطر، التي تكفل لها توطيد استقرار اقتصاداتها وأسواقها وفق مصلحتها، وأن تبذل الجهود اللازمة للنأي بمقدراتها الوطنية عن المخاطر المحتمل ترتبها من أي سياسات تتجاوز الحدود من أي اقتصاد كان، سواء كان الاقتصاد الأمريكي أو غيره، وهذا خيار سيصعب تحقيقه بالتأكيد في ظل التشابك الكبير اليوم بين اقتصادات العالم، في حال أرادته دولة واحدة أو حتى دولتان مهما كان حجمهما الاقتصادي خلاف الاقتصاد الأمريكي، إلا أنه خيار ممكن التحقق بحال ضم دولا أكثر وأكبر اقتصاديا، وكان القاسم المشترك بينها أكبر من الفروقات، ولهذا حديث ممتد بمشيئة الله تعالى.

 

 

نقلا عن الاقتصادية