بين الغلاء والقدرات الشرائية

17/10/2022 0
د.صالح السلطان

يشهد العالم موجة تضخم المعبر عنه تاريخيا بالغلاء. وتملأ وسائل الإعلام مناقشات ذوي الشأن والعلم والمشورة في كيفية الحد من هذا الغلاء. أما عامة الناس فأكثرهم يطالب بتدخل الحكومات بما يجعل الأسعار تحت ما يسمونه قدرة الناس الشرائية. وهذا من طبيعة البشر، فقد خلق الإنسان هلوعا. لكن بعض التدخل مبرر وبعضه ليس كذلك. حتى المبرر، في حالات يتطلب تبني سياسات عامة بهدف خفض تكلفة الإنتاج والبيع، لكنه خفض له ثمن، وليس من الحتمي نجاحه كما ينبغي في تخطيطه أو تنفيذه.

الفقهاء مختلفون في حكم التسعير، تبعا للظروف. ومن أشهر من كتب عن التسعير الإمام ابن تيمية - رحمه الله -. قال في كتابه الحسبة، "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق... وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل‏:‏ فهو جائز، بل واجب‏". ومن المهم القول إن معرفة تفاصيل هذه الأمور، خاصة في وقتنا، خارج طبيعة ونطاق علم الفقه. طبعا بودنا أن تنخفض الأسعار لتناسب القدرات الشرائية بمعناها البسيط العام. لكن التعميم مجرد حلم. وكلامي وصف للواقع، وليس من باب مدحه أو ذمه. لو كانت الأسعار تنخفض في كل الأحوال لقضي على الفقر. هناك الملايين من البشر الذين لا يملكون مالا لشراء طعام، ورغم ذلك لم تنخفض أسعار الطعام في دولهم.

بعض الغلاء جلبته أسباب ومتطلبات مشروعة وبعضه جلبته أسباب وتصرفات غير مشروعة. وتختلف العقول في تفسير وقبول تلك الأسباب والتصرفات، وكيفية التصرف تجاهها. والقضاء على غير المشروعة من واجبات الحكومات، لكنه لا ينتج بالضرورة أسعارا في متناول قدرات أغلبية الناس. قد تنخفض الأسعار، لكن ليس إلى حد أن تكون في متناول قدرات الأغلبية.

تبعا للشروحات السابقة، فإنه ليس بإمكان البائعين عمليا فرض الأسعار، كما يرغبون في كل حال. ينظر علم الاقتصاد إلى طبيعة سوق السلعة، في كل خطوات توفيرها وبيعها. وهنا مثال. تنفرد مصفاة في بيع وقود السيارات على محطات البنزين. في حال عدم تدخل الحكومة، قد تقرر المصفاة أسعارا كما ترغب. وتبنى هذه الرغبة عادة على تعظيم الأرباح إلى أقصى حد ممكن.

بافتراض أن السلطة حددت سعر بيع المصفاة على المحطات، لكنها سمحت للمحطات بأن تبيع بالسعر الذي تراه. وهذا موجود في دول. هل تستطيع محطات الوقود أن تحذو حذو المصفاة وتقرر هامش ربح لها من البيع، كما ترغب، بافتراض عدم تدخل الحكومة في تحديد هذا الهامش؟

الجواب عادة لا، لسبب بسيط وهو وجود عدد كبير من المحطات المتنافسة على السوق. ونحن نتكلم عن الوضع العام، وليس عن حالة خاصة، كمحطة وقود وحيدة في مكان بعيد.

ما سبق يقود إلى الحديث عن أنواع الأسواق. من باب التبسيط إلى أقصى حد ممكن، بإمكاننا توزيع الأسواق إلى ثلاثة أنواع رئيسة، تنافسية، وانفرادية "المسمى الشائع احتكارية، لكنها تسمية لا تنسجم مع المعنى اللغوي والفقهي للكلمة"، ومحدودة العدد أي قلة.

الحديث عن الأنواع مقصور على البائع وليس المشتري.

السوق الانفرادية تعني وجود بائع واحد. وإذا تعدد البائعون ضمن حدود سوق بعينها، لكنهم قلة كنحو عشرة بائعين، فإنها سوق قلة. إما إذا كثر البائعون ضمن حدود سوق بعينها بأن صار عددهم بالعشرات أو أكثر، فالسوق تنافسية. وهذه التنافسية قد تكون تامة أو قريبة من التامة.

أهم صفات السوق التنافسية وجود عدد كبير جدا من البائعين بحيث يمتنع سيطرة واحد على السعر، ويصعب جدا تكتلهم أو تعاونهم للسيطرة عليه. لذلك يستبعد أن يكون هناك طرف مستغل "بكسر الغين" ومستغل "بفتح الغين". ومن أمثلة السلع والخدمات التي سوقها تنافسية بالنسبة إلى المستهلك الأطعمة والمواد التموينية إجمالا في محال التجزئة، والفلل والشقق السكنية ومحطات الوقود وخدمات الحلاقة وتأجير السيارات، وغيرها كثير مما يعرف بوجود عارضين ومشترين كثيرين للسلعة نفسها. وطبعا هناك حالات خاصة جدا كوجود محل حلاقة وحيد في بلدة صغيرة.

الأسعار في الأسواق التنافسية لم تفرض من أحد. وتبعا، يتبع مقدم السلعة سعرا موجودا في السوق، عكس حالة الأسعار في السوق الانفرادية. والأمر منطقي. وتبعا، أعجب ممن يلمز بمالك عقار حينما يعرضه للبيع بسعر سائد في السوق، وهناك المئات وربما الآلاف من البائعين غيره.

بعض الناس يتعجب كيف ترتفع الأسعار طالما أنها لم تفرض من أحد. ارتفاع الأسعار "التضخم" في هذه الحالة يحدث لعوامل اقتصادية وغير اقتصادية خارجة عن سلطة البائع. أمثلة لهذه العوامل الخلافات بين الدول وكثرة النقود وزيادة الطلب وارتفاع التكاليف. سياسات التيسير النقدي في أمريكا كانت وراء كثرة النقود في أمريكا خاصة والعالم عامة. والموضوع طويل عريض. قد يكون الانفراد أو القلة من جهة بائع الجملة أو المستورد أو المنتج وليس من جهة بائع التجزئة. البنزين مثال.

هل لهذه السلع بدائل أو لا؟ وجود البدائل يضعف جدا قدرة بائع الجملة على فرض السعر. لكن المشكلة عند عدم وجود بدائل. هل تسعر الحكومة في هذه الحالة؟ يعتمد الأمر على مدى أهمية هذه السلع للمستهلكين أو المشترين. في السلع الضرورية لا بد من التسعير. وعلى الحكومات محاربة الممارسات غير المشروعة، وحماية المنافسة بكل عدالة وقوة.

الموضوع طويل وهذا ما تيسر توضيحه. وما قلته بصفة عامة في حكم المتفق عليه بين علماء الاقتصاد، وليس وجهة نظر لكاتب المقال. وبالله التوفيق.

 

 

نقلا عن الاقتصادية