أظهرت أزمات البشر الاقتصادية والمالية مدى سطوة ونفوذ الدولار على الاقتصاد العالمي. حتى أمريكا تمر بها أزمات، والتضخم مثال، لكن سطوة دولارها زادت. تحارب أمريكا ومعها العالم التضخم بسياسات، على رأسها تشديد السياسة النقدية ورفع معدلات الفائدة. لكنها سياسات كانت من أسباب ارتفاع الدولار وإضعاف عملات رئيسة أخرى. العولمة وسياسات التنويع، و"لا تضع بيضك كله في سلة واحدة"، حفزت عالميا كثيرا من البنوك المركزية والصناديق الاستثمارية الخاصة والعامة، أي السيادية، على خفض نسبي في موجوداتها من الدولارات خلال أعوام مضت. لكن ارتفاع الدولار أضاع مكاسب عملات رئيسة أخرى.
ظهرت على مدى الأعوام دعوات مسؤولين من دول، على رأسها روسيا والصين، إلى النظر في دور الدولار في النظام المالي العالمي. يبدو أنهم غير راضين عن الترتيبات الحالية، وأشارت تقارير للبنك المركزي للصين، إلى حاجة قائمة إلى صناعة عملة احتياط دولية غير مرتبطة بعملة دولة بعينها.
في المقابل، تبذل أمريكا جهودا لدعم بقاء الدولار العملة العالمية الأولى. مثلا يخرج بين وقت ووقت مسؤولون أمريكيون من وزارة الخزانة وغيرها من جهات ذات علاقة لطمأنة الدول الدائنة على سلامة استثماراتها المالية في أمريكا، وعن إجراءات لخفض عجز الميزانية الفيدرالية الأمريكية. الصين وبلادنا على رأس الدول الدائنة.
يكرر سؤال عبر الأعوام على مسؤولي الخزانة الأمريكية: كيف تحققون ما تقولونه في ظل العجز غير المسبوق في الميزانية الفيدرالية؟ طبعا الأجوبة تدور حول ما تبذله السلطات الأمريكية من جهود لتحسين الاقتصاد الأمريكي. والمحافظة على ثقة العالم بقدرة أمريكا على خفض العجز في الميزانية، وإصلاح النظام المالي، وأن يكون البنك المركزي الأمريكي "الفد" ملتزما وقادرا على إبقاء الأسعار مستقرة على المدى البعيد.
ورغم أن مكتب الميزانية OMB يتوقع انخفاض العجز خلال الأعوام القليلة المقبلة، لكن كيف؟ يشكك كثير من خبراء الميزانية والمالية العامة في وجود إرادة سياسية لرفع الضرائب أو خفض الإنفاق. الناس بطبيعتهم يركزون على مصلحتهم العاجلة وليس البعيدة. قال سبحانه "إن الانسان خلق هلوعا". لذا لم يكن غريبا الموقف السلبي للملأ من رؤيا ملك مصر، التي فسرها يوسف - عليه السلام -. وكان عماد نصيحته وضع حساب للمصالح على المدى البعيد، وهو يعرف حصول سلبيات على المدى القصير.
مفترض نظريا أن ضخامة العجز الفيدرالي الأمريكي مفترض أنها تخفض قيمة الدولار إزاء العملات الرئيسة الأخرى. تحقق هذا الافتراض مبني كغيره من الافتراضات الاقتصادية على ثبات أو شبه ثبات في العوامل الأخرى. وهذا عكس ما وقع. تلك العوامل الأخرى من رفع فائدة وغيرها مما لا يخفى على الإخوة القراء، التي يمر بها العالم منعت تحقق هذا الافتراض.
ارتفاع الدولار نعمة لأمريكا في بعض جوانبه، مثلا يساعد على تخفيف التضخم. من سبل ذلك خفض أسعار المستوردات. وهذا خبر سار للمصدرين الأوربيين. لكنه في المقابل يرفع أسعار الصادرات الأمريكية. ويرفع تكاليف السفر للمسافرين إلى أمريكا وبالعكس، يقلل تكاليف السفر إلى الخارج على الأمريكيين. لكن ما سبق لا ينفي وجود عوامل أخرى مؤثرة كأوضاع سلاسل التوريد العالمية.
يرى البعض أن ارتفاع قيمة الدولار مؤقتة. هذا البعض يتوقع حصول عمليات تصحيح ستخفض من قيمة الدولار لاحقا. ويقترح بعض الخبراء في اقتصاد النقود ومعهم جهات ذات علاقة، أن تتحرك البنوك المركزية بصورة منسقة للحد من صعود الدولار، بل إن أمكن خفض قيمته. من تلك الجهات مجموعة ستاندرد بنك التي ترى أن تحرك البنوك المركزية لمواجهة ارتفاع الدولار مسألة وقت، لكن هناك فريقا يرى أن عجز الميزانية أصلا يقوي الدولار بطريقة غير مباشرة.. كيف؟
تمويل الميزانية الأمريكية يسهم في زيادة عجز الحساب الجاري، لمقابلة انكماش الادخار المحلي مقارنة بالاستثمارات التي تنمو مع نمو عجز الميزانية، بالنظر إلى توجيه نسبة كبرى من تمويل العجز إلى الإنفاق على البنية التحتية، ويمكن إضعاف عجز الحساب الجاري عبر دولار قوي. ذلك لأن الادخار المحلي لا يكفي، ولا بد من جذب مزيد من رأس المال من خارج أمريكا، وهذا يتطلب عجزا أكبر في الحساب الجاري. وارتفاع سعر صرف الدولار "مصحوبا بارتفاع أسعار الفائدة" ربما كان أهم أداة لتحقيق عجز أكبر في الحساب الجاري.
وهناك فريق يوافق على أن الدولار سيتعرض للانخفاض في وقت ليس ببعيد، لكن السبب ليس محصورا في خفض عجز الميزانية والتضخم بما يقلل الحاجة إلى استمرار معدلات فائدة مرتفعة، بل العجز التجاري. كيف؟ ينخفض الدولار مقابل العملات الرئيسة الأخرى "كاليورو والجنيه والين" عندما يتجاوز المعروض من الدولار في الأسواق العالمية الطلب عليه. وهذه مسألة لا علاقة مباشرة لها بعجز الميزانية. وفقا لهذا الرأي، سيتعرض الدولار للانخفاض، نظرا لضخ كميات هائلة من الدولارات في أسواق أسعار الصرف من جراء العجز التجاري.
ومن المهم التنبيه إلى نقطة. حتى لو حصل هذا الانخفاض، فإنه نسبي، ولا يعني بالضرورة عودة سعر الدولار إلى ما قبل الأزمة الحالية.
نقلا عن الاقتصادية