حينما تصدر مؤشرات أداء الاقتصادات والأسواق، وتتحدث عن تطورات أو مستويات كانت الأعلى أو الأدنى خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، وتأتي بكثافة أكبر، وبصورة متسارعة لكثير من الاقتصادات والأسواق خلال فترات زمنية متقاربة جدا، فلا شك أن الإنسان المعاصر أمام مشهد خارج عن النسق التقليدي والطبيعي للاقتصاد العالمي، وأن وقع الأزمات بدءا من بذورها الممهدة لما بعدها، وصولا إلى نهايات تشكلها وتحولها إلى أمر مشاهد ومؤثر فيما حولها، وعلو كعبها وانتشارها أكثر من ركائز الاستقرار المعززة لنمو الاقتصادات والأسواق، وهو الأمر المربك بكل تأكيد لأعتى المؤسسات المالية الدولية والمحلية، وصولا إلى إدارات اتخاذ القرار في البنوك المركزية حول العالم.
من أقرب الأمثلة الدالة على تقدم ذكره أعلاه، الانتشار اللافت لموجات التضخم بهذا القدر المرتفع والمتسارع في كثير من الدول، فخلال أقل من عام واحد ارتفعت نسبة الدول التي بلغ معدل التضخم فيها 6.0 في المائة فأكثر إلى 76.7 في المائة من مجموع دول العالم بحلول منتصف العام الجاري، مقارنة بما لم تتجاوز نسبته 10.0 في المائة من مجموع دول العالم، التي بلغ فيها معدل التضخم 6.0 في المائة بنهاية منتصف 2021. وتعد هذه النسبة من انتشار التضخم عالميا الأعلى في منظور العقود الزمنية الأربعة الماضية. ووصل أعلى معدل للتضخم مع منتصف العام الجاري إلى 79.6 في المائة في الأرجنتين، وهو أعلى معدل تضخم دولي منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1998 الذي تم تسجيله عند 81.5 في المائة في إندونيسيا، وهو المعدل المرتبط بالتداعيات التي خلفتها أزمة النمور الآسيوية آنذاك، طبعا باستثناء معدلات التضخم القياسية التي يسجلها عديد من الدول الفقيرة جدا في إفريقيا، ولا يقاس عليها في هذه المقارنة، وباستثناء موجة التضخم الهائلة التي تفجرت في صربيا خلال 2000 - 2001 نتيجة للاضطرابات الداخلية التي ضربتها، ووصل فيها معدل التضخم إلى 135.2 في المائة بنهاية نيسان (أبريل) 2001.
أمام هذه المستجدات غير المسبوقة طوال العقود الماضية، استنفرت البنوك المركزية أسلحتها للتصدي لموجات التضخم المستعرة، ودخلت في سباق محموم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، من خلال الرفع المتتالي لمعدلات الفائدة خلال الأشهر القليلة الماضية، وعبر سحب فوائض التيسير الكمي الذي أغرقت به الاقتصادات والأسواق بتريليونات الدولارات، تكرر ضخه مرات عديدة طوال الفترة الممتدة منذ الأزمة المالية العالمية 2008 حتى انتشار الجائحة العالمية لكوفيد - 19. وتغامر البنوك المركزية في هذا الاتجاه الصدامي مع التضخم بعديد من الجوانب المهمة، كالتضحية بالنمو الاقتصادي والقبول على مضض منها بالركود المرحلي، وما سيقترن به من ارتفاع لمعدل التضخم وكثير من التقلبات الحادة في الأسواق عموما، وكل ذلك تقديرا منها على أمل الخروج من قبضة تلك التداعيات خلال أقل من عام تالٍ، التي ترى البنوك المركزية أنها أقل سوءا من السماح باستمرار معدلات التضخم في زحفها الراهن، وكي لا يأكل الأخضر واليابس في طريق ارتفاعه لفترة أطول.
جزء من التحديات أو حتى الأزمات التي تشكلت في طريق الاقتصاد العالمي خلال الفترة الراهنة، كان حلولا قد اتخذها عديد من المؤسسات والبنوك المركزية خلال العامين الماضيين، وبعض تلك الأزمات كان حجمه أصغر بكثير من حجمه الراهن، وأقرب مثال لذلك "التضخم"، وهو ما لم تحسن البنوك المركزية تشخيصه جيدا، ولا تقدير عواقبه الوخيمة. ويرى العالم اليوم تلك المؤسسات والبنوك نفسها تواجه تلك الأزمات والتحديات الجسيمة بمنهجية مختلفة تماما عما كان معمولا بها حتى مطلع العام الجاري، أي قبل أقل من نصف عام على أبعد تقدير.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن الاقتصاد العالمي يسير فوق كثبان متحركة من الأزمات، ويعني أيضا أن الآفاق القريبة زمنيا قد تأتي بمفاجآت أخرى، قد تدفع المؤسسات والبنوك المركزية نفسها إلى اتخاذ تدابير وإجراءات وسياسات تختلف جذريا عما تشهده الاقتصادات والأسواق خلال الفترة الراهنة، وهو أمر لا يمكن استبعاده بأي حال من الأحوال، خاصة أن كثيرا من الدول والتكتلات الدولية، أصبح كل فريق منها يبحث عن تحقيق مصلحته الخاصة، ولو كان ذلك على حساب اقتصادات وأسواق أخرى، ولا يحتاج إثبات هذا التفكك في رؤى الدول والتكتلات كثيرا من العناء، إذ تكفي التطورات التي تجري الآن على خلفية العقوبات الغريبة على الاتحاد الروسي، وما يقوم به عديد من الاقتصادات الكبرى، كالصين والهند وروسيا، وغيرها من المنظمات الدولية ذات الثقل الكبير، سواء في مواجهة تلك العقوبات وتداعياتها، أو في مواجهة تخلي الدول الغربية عن التزاماتها الدولية تجاه كثير من القضايا، كالتجارة الدولية والطاقة وحماية المناخ.. إلى آخره، وكيف أنها انقلبت تجاهها 180 درجة على عكس ما كانت تنافح عنه طوال أكثر من ثلاثة عقود زمنية مضت.
إذا كانت الأغلبية ستقفز من السفينة بحثا عن مصالحها، وحماية مقدراتها، فهذا بالتأكيد يعني اختلافا جذريا في قواعد اللعبة الدولية، ويعني أيضا أن قوانين أو أنظمة جديدة حلت محل نظام العولمة المهترئ منذ ولادته قبل أكثر من ثلاثة عقود، ويعني أيضا أن للجميع حق البحث عن مصالحه وحماية مقدراته وفق ما يراه، ولا يحق لطرف تبرأ تماما من التزاماته تجاه الجميع، أن يطالب غيره من الأطراف بالالتزام بها وهو أول من تخلى عنها.
سيكون على الأطراف المؤثرة عالميا، وذات الثقل الاقتصادي والمالي الأكبر، أن تسير في الاتجاه الذي يكفل لها ولحلفائها وشركائها الأقرب والأكبر حماية وتحقيق مصالحها، وهو بكل تأكيد الخيار البراغماتي خلال المرحلة الراهنة من العمر الطويل للاقتصاد العالمي، وأن المشهد الاقتصادي العالمي الراهن يحمل في طياته مقدمات تشكل أنماطا مختلفة تماما عن سابق عهده طوال أكثر من قرن مضى، ستكون الكلمة الأعلى خلال المستقبل للأطراف الأقوى ومن يمتلك جذور القوة، وهو ما تحظى بكثير منه منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها المملكة، وما يجب العمل به كما كان وما زال سائدا طوال تاريخ البشرية، أن البقاء للأقوى ولمن يمتلك أسسه وركائزه، وله الحق الكامل في اتخاذ ما يتوافق مع مصالحه الاستراتيجية أولا، وثانيا بما يحقق له تجنب السقوط في تلك الكثبان المتحركة من الأزمات.
نقلا عن الاقتصادية