سياسات الإنفاق العام والتضخم

13/07/2022 1
د.صالح السلطان

مقدما تهنئة بمناسبة عيد الأضحى، أعاده الله كل عام بخير وتقبل الله من الجميع، تعمل الدول ما بوسعها لخفض التضخم الذي تعانيه حاليا. لكنه خفض بالغ الصعوبة والتعقيد. الأمر أكثر تعقيدا مما كان متوقعا من قبل. مما يلفت الانتباه مطالبة الناس حكوماتهم بخفض التضخم. في الوقت نفسه يطالب كثيرون منهم حكوماتهم بزيادة الإنفاق. هل يجتمعان؟

ابتداء من المهم القول إن بين سياسات المالية العامة والنقدية والتضخم علاقة مباشرة. ومن يقول إنه لا علاقة للسياسة المالية العامة بالتضخم غير صحيح. هو قول لا يقول به أي مختص في الاقتصاد. والمشكلة ليست في أصل العلاقة لكن في التفاصيل. وكما قال بعضهم الشيطان يكمن في التفاصيل.

من المؤكد "يعني المسألة ليست وجهة نظر" أن الارتفاع الحاد في الإنفاق هذا العام بعد انحسار كارثة كورونا من المؤكد أنه أحد مصادر وأسباب التضخم الحالي. ومصدر رئيس للزيادة الكبيرة في إنفاق حكومات الدول. طبعا هذه الزيادة ليست السبب الوحيد. ووجود هذه العلاقة لا يعني بأي حال من الأحوال الدعوة إلى خفض الإنفاق الحكومي، وإنما التمعن في جوانب الموضوع، بما يقلل تأثير زيادة الإنفاق الحكومي وطبيعة هذه الزيادة على التضخم قدر الإمكان. وأصل العلاقة السابقة قائم على وجود علاقة بين السيولة والأسعار. ويساعد غير المختصين في تصور العلاقة الرجوع إلى الأسس.

التضخم "المعبر عنه بالإنجليزية بكلمة inflation" يعني الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، وبعبارة مكافئة الانخفاض المستمر في قيمة النقود، أي: قوتها الشرائية. وتبعا، فإن هناك قناعة بين علماء الاقتصاد بمختلف مدارسهم بأن التضخم الداخلي، أو الخارجي في موطنه ينشأ من جراء تفاعلات بين متغيرات اقتصادية كالنقود والإنتاج طلبا وعرضا.

لنبدأ بعلاقة النقود

هناك علاقة ثابتة بين أربعة عناصر: الإنتاج Y، والمستوى العام للأسعار P، وكمية النقود المتاحة في الاقتصاد M، وسرعة دوران أو تداول الأيدي للنقود V. والمعادلة التي تربط بين هذه المتغيرات هي: PY = MV وهذه المعادلة تعني أن كمية النقود الموجودة في اقتصاد ما تحت التداول مضروبة في سرعة دوران النقود = الأسعار مضروبة في كمية السلع والخدمات.

وتبعا لذلك لو ضربنا كل الأسعار بالكميات المشتراة من السلع والخدمات "في اقتصاد ما مثل اقتصاد المملكة، وخلال فترة زمنية محددة عادة عام" فإن الناتج لا بد بالضرورة أن يساوي كمية النقود المتداولة مضروبة في سرعة دورانها.

علاقة الطلب

زيادة كمية النقود لا تأثير لها بطبيعة الحال في الأسعار إذا بقيت دون تداول وإنفاق، أما إذا تحولت إلى طلب "عبر تداول النقود v" أي: وجدت بيد من ينفق سواء كان قطاعا عاما أو خاصا أو عائلات وأفرادا، فإنها عموما وبعبارات مبسطة، ترفع مستوى الأسعار، عندما تكون نسبة الزيادة في كمية النقود أعلى من نسبة الزيادة في السلع والخدمات. أو ما معناه "نقود كثيرة مقابل سلع قليلة". ودرءا لسوء فهم محتمل فإن الزيادة في العرض ليست بلا ثمن. يصحبها في الأغلب عبء تضخمي. ذلك أن زيادة العرض تستلزم عادة زيادة إنفاق وزيادة توظيف وهكذا، ارتفاع الطلب له أكثر من سبب وسبب، ومن أهم الأسباب ارتفاع الإنفاق الحكومي.

الإنفاق الحكومي له تأثير مباشر وتأثير غير مباشر. التأثير المباشر يأتي من زيادة الطلب المباشر على السلع والخدمات. والتأثير غير المباشر يأتي من جراء اعتماد الأنشطة بعضها على بعض، فالطالب من قطاعات عامة وقطاعات أخرى يشتري سلعا وخدمات، ويتعاقد مع مقاولين لتنفيذ مشاريع، وتقديم خدمات صيانة، ويدفع رواتب لعاملين، وكل هؤلاء يشترون من مزودين آخرين وهكذا، في إطار مضاعفات.

توفر السيولة، وتوسع الإنفاق الحكومي وغير الحكومي غالبا يستهدف توسيع طاقة الاقتصاد الاستيعابية. وهذا التوسيع ليس بلا ثمن. بعبارة أخرى، توسيع الطاقة عامل من عوامل جلب التضخم بطريقة غير مباشرة. والمسألة مقارنة بين ثمنين: ثمن عدم التوسع وثمن التوسع.

أحد أهم مسببات حصول مشكلات في طاقة استيعاب الاقتصاد حصول كوارث طبيعية أو كوارث من صنع بشر. من الأمثلة كارثة كورونا والحروب والقلائل والفتن. كلها تؤثر سلبا في القدرات الإنتاجية وحركة السلع عالميا. هذه أمور تحدث عبر التاريخ. لكن من المسببات أيضا انخفاض الإنفاق الاستثماري الحكومي "مثلا على البنية التحتية ومشاريع المرافق العامة". وقد حصل ذلك عالميا نسبيا في العقد الماضي إثر الأزمة المالية العالمية.

تتفاوت تأثيرات وقوة مسببات ومحركات التضخم بين الدول. الأمر يتطلب تشخيصا لكل بلد على حدة. ورد فعل الدول للكوارث وغيرها متفاوت في حجمه وتأثيره. مثلا، ردود فعل الدول في سياساتها الإنفاقية وغير الإنفاقية على كارثة كورونا متفاوت تفاوتا كبيرا.

وخلاف ذلك، تتفاوت الدول في تأثرها بالجائحة. وعموما تتفاوت الدول في تأثرها بالتضخم، وتبعاته. والتفاوت يزيد الفجوات بين الدول في الدخل ونسبة الفقر ونسبة ارتفاع أسعار السلع الأساسية فيها وما إلى ذلك.

وهذه التغيرات نتيجة عوامل عديدة. وفي جانب سياسات الإنفاق الحكومي نتيجة عوامل مثل مستويات الديون السيادية والتصنيف الائتماني وأسعار الصرف وأوضاع سلاسل التوريد العالمية وغيرها. باختصار تتغير تأثيرات سياسات الدول المالية تبعا للتغير في الأوضاع.

 

نقلا عن الاقتصادية