من الدروس التي تعلمناها من الحرب في أوكرانيا هشاشة الإمدادات الغذائية العالمية. وهنا يكثر طرح سؤال عن كيفية إطعام عالم مضطرب. وكان هذا عنوان موضوع رئيس في «الاقتصادية» يوم السبت الماضي. والاضطراب له أكثر من مصدر. الحرب مصدر، والجفاف مصدر. وكلها تمر بالعالم بين وقت ووقت. وللعالم أن يستفيد من دروس تاريخية، ولعل أعظمها دروس من نبي الله يوسف - عليه السلام، أخبرنا - سبحانه - في القرآن الكريم عن توقعات النبي يوسف ذات الطابع التفسيري لما سيكون عليه الاقتصاد المحلي وقتها في الأعوام المقبلة. توقعات يوسف بالتعبيرات الاقتصادية المستخدمة في وقتنا، وباختصار، أنه تحل بالاقتصاد آنذاك، طفرة سبعة أعوام متتالية. بعدها تحل سبع سنوات كساد شديد. كساد ينخفض فيه الإنتاج انخفاضا قويا. وبالتعبير المعاصر، ينحدر الناتج المحلي انحدارا شديدا. هذا الانحدار في قطاع الزراعة، والسبب نقص المياه. وقطاع الزراعة هو عماد أغلب الاقتصادات وقتها. ومن النتائج نقص شديد في العرض، يتسبب في ارتفاع شديد في الأسعار، أي: موجة تضخم قوية.
قال سبحانه: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ* قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ* وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ* قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ».
ما عماد نصيحة يوسف للتعامل مع الوضع المتوقع؟ ادخار جزء كبير من الإنتاج خلال أعوام الإنتاج تحسبا للسنوات الشداد. الادخار يستلزم خفض الاستهلاك. وهو خفض ليس في كماليات، بل في قوت أساسي. وهو مطلب عام، وليس موجها إلى فئة بعينها.
بالتأكيد سيجلب الادخار تضخما في أسعار الطعام على الناس لانخفاض المعروض. وتبعا، فإن رد فعل أغلب الناس المتوقع على نصيحة يوسف، كما نراه في مختلف المجتمعات وعبر السنين، ومن آخرها بعض نصائح صندوق النقد الدولي، ألا يقتنع معظمهم بالنصيحة. وهنا أمثلة لردود فعلهم: كيف يطلب أن نعيش هكذا. وليس بشرط أن الأكثرية على صواب «وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».
توقع يوسف لما سيحل يحمل في ذاته معنى النصح. نصح لمواجهة هذا الوضع أن عليهم أن يستهلكوا بعض إنتاجهم «إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ» وقت الرخاء، ويدخروا معظم الإنتاج لوقت الضيق.
من أهم تأثيرات نصيحة يوسف، الغلاء بسبب تخزين جزء كبير من الإنتاج. التخزين يتسبب في انخفاض كبير في حجم المعروض للبيع. وانخفاض العرض يرفع الأسعار.
ما رد فعل الناس المتوقع؟ من المتوقع، كما نراه في سلوك معظم الناس ومختلف المجتمعات ألا تقتنع الأغلبية بالنصيحة والتطبيق، لما جلبته من غلاء. ستنتشر الشائعات والقيل والقال. سيقول الناس كيف نسمع ونطبق نصيحة تقلل المتاح للبيع في السوق وتجلب الغلاء؟ هذا القول فيه نظر لنصف الصورة، وتجاهل للنصف الآخر.
من المتضررين من الوضع أهل يوسف. قال سبحانه: «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ».
أهم الدروس:
الخطة وتطبيقها ليس مفيدا على مستوى الدول فحسب، بل فائدتها تمتد للأفراد. والاستفادة ليست محصورة بمدة أو واقعة بعينها، بل تتغير حسب الزمان والمكان والظرف والحالة.
في نصيحة يوسف دعوة النفوس أفرادا ومجتمعات ودولا إلى ثلاثة أمور: الإنتاجية «تزرعون» والادخار أو التوفير «فما حصدتم فذروه في سنبله»، وضبط الاستخدام والاستهلاك «إلا قليلا مما تأكلون». لماذا؟ لأنه لا ضمان أن النعم تدوم «ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد». ويجب أن تتم في حفظ وعلم "إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"، كل بحسبه، تحمل الخطة مبدأ المشاركة بمختلف مسؤوليات الناس. فقد جاءت خطابات يوسف بصيغة الجمع، وليست بصيغة المفرد.
أكثر الناس - بمختلف مستوياتهم - لا يحبون تطبيق ما سبق، فهم يميلون إلى رمي المسؤوليات على غيرهم، وصرف كل ما في جيبهم أو جيب الدولة ليتحول إلى جيبهم، لكنه ميل تنبغي مجاهدة النفوس لضبطه. وكان ذلك أحد أسباب ازدهار اقتصاد مجتمعات ودول حديثة نسبيا.
في بلادنا - بحمد الله ورعايته - تتبنى الدولة سياسات تخزين للحبوب كافية لاستهلاك شهور. كما تتبنى الدولة سياسة عدم إنفاق كل الفائض في ميزانية الدولة، بل يحول بعضه إلى الاحتياطي. كل هذا تحسبا للطوارئ، ورأينا نفع هذه السياسات وقت الشدائد.
نسأل الله العافية، وتقبل الله من الجميع، وعيد مبارك مقدما.
نقلا عن الاقتصادية