يجري الآن أكبر تغيير في سلسلة توريد النفط العالمية منذ سبعينيات القرن الماضي، ويتوقع ألا تعود الأمور إلى طبيعتها أبدا حسب الاحتمالات الواردة. حيث إن العقوبات الغربية المفروضة على صادرات النفط الروسية تعمل على تغيير طرق تجارة النفط العالمية. على مدى العقود الخمسة الماضية، كان النفط يتدفق بشكل أو آخر بحرية من أي مورد إلى أي عميل في العالم، باستثناء العقوبات المفروضة على إيران وفنزويلا في الأعوام الأخيرة. لكن تجارة الطاقة الحرة هذه انتهت الآن بعد الأزمة الأوكرانية والعقوبات الغربية التي أعقبت ذلك، إضافة إلى قرار أوروبا بقطع اعتمادها على الطاقة الروسية بأي ثمن.
لجوء أوروبا إلى الولايات المتحدة والشرق الأوسط وإفريقيا لتأمين إمدادات النفط يقلب تدفقات النفط رأسا على عقب. قبل أسبوعين تبنى الاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات لوقف استيراد النفط الخام الروسي المحمول بحرا في غضون ستة أشهر ومنتجات النفط الروسية في غضون ثمانية أشهر. وفي إجراء أبعد مدى بكثير في حزمة العقوبات يحظر الاتحاد الأوروبي أيضا الشركات الأوروبية من تأمين وتمويل شحن النفط الروسي إلى دولة ثالثة.
بحلول نهاية هذا العام، تأمل أوروبا أن تحظر فعليا 90 في المائة من جميع وارداتها من النفط الروسي قبل الأزمة. وأدى الحظر والعقوبات الذاتية بالفعل إلى تغيير حركة ناقلات النفط العالمية. بدلا من السفر لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع من موانئ البلطيق الروسية إلى هامبورج أو روتردام، تبحر الناقلات التي تحمل النفط الروسي الآن شهرين أو نحو ذلك للوصول إلى الهند والصين. في الوقت نفسه، يبحر النفط الخام من الشرق الأوسط لمسافات أطول إلى الموانئ الأوروبية مقارنة بالطرق الأقصر إلى الهند والصين.
ستؤدي هذه التغييرات الجوهرية في تدفقات النفط إلى ارتفاع تكاليف التأمين والشحن والتمويل للجانبين. يمكن لتجارة الطاقة الأكثر تكلفة، بسبب نهاية حقبة التجارة الحرة التي كانت قائمة فقط على إشارات السوق للعرض والطلب والأسعار، أن تضع موارد الطاقة في قلب الأزمة الاقتصادية العالمية المقبلة.
بالتأكيد، ستستخدم روسيا بشكل متزايد عمليات النقل من سفينة إلى أخرى لتحميل النفط الخام من ناقلات أصغر على ناقلات عملاقة. ومن المتوقع أيضا أن تقوم بتحويل جزء من شحناتها الخام بالطريقة التي كانت تقوم بها إيران منذ إعادة فرض العقوبات الأمريكية على صادراتها النفطية عام 2018. ومع ذلك، قد لا تتمكن آسيا على الأقل في البداية من استيعاب كل النفط الروسي الذي كان في السابق ذاهبا إلى أوروبا، التي كانت الزبون الأول للنفط الروسي قبل الأزمة.
تعمل الهند الآن، التي تشتري النفط في الأغلب من الشرق الأوسط، على تعزيز مشترياتها من النفط الروسي، مستفيدة من الخصومات الكبيرة. من جانبهم، من المتوقع أن يزود المنتجون في الشرق الأوسط أوروبا بمزيد من النفط، وكذلك المنتجون في إفريقيا والولايات المتحدة. تعد الهند والصين فرصة لروسيا لمواصلة بيع نفطها. رغم أن روسيا تعرب علنا عن ثقتها بأنه ستكون لديها أسواق جديدة لطاقتها، إلا أن المحللين يشككون في أن كل النفط الذي كان سيذهب إلى أوروبا قد ينتهي في آسيا، وأيضا بسبب قضايا تغطية التأمين وتغير طرق تجارة النفط التي تحتاج إلى فترة أطول.
بالنسبة لأوروبا، أصبح الآن اختيار إمدادات النفط سياسيا أكثر منه اقتصاديا، وستكون مستعدة لدفع علاوة كبيرة لشراء النفط غير الروسي. سيؤدي هذا إلى تشدد خيارات العرض والاستمرار في دعم أسعار النفط المرتفعة للأشهر المقبلة. سيكون لهذا الحظر تأثير كبير في تدفقات تجارة النفط العالمية، حيث تحتاج أوروبا إلى استبدال نحو 30 في المائة من حاجتها إلى النفط من مناطق أخرى في سوق تعاني أصلا تشددا في الإمدادات قبل الأزمة.
في الواقع من الصعب الآن إجراء تقييم موثوق لمقدار انخفاض الصادرات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي. سيعتمد هذا على الوضع السياسي، وتوافر البدائل ومدى نجاح شركات النفط الروسية في إعادة توجيه النفط إلى آسيا. قد تستغرق مثل هذه المهمة العالمية لتغيير مسار تدفقات النفط وقتا أطول بكثير مما يتوقعه ويأمله السياسيون الأوروبيون.
من المحتمل أن بولندا وحدها التي تتمتع بأقوى دعم سياسي لمثل هذا القرار، ستكون قادرة على التخلي تماما عن خط الأنابيب النفطي القادم من روسيا. قد تحتفظ ألمانيا بحلول نهاية العام بنحو 50 في المائة من واردات خطوط الأنابيب من روسيا، بينما ستستمر المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك في شراء النفط بالكامل عبر خط أنابيب دروجبا Druzhba. وهذا يعني أن من بين 1.1 مليون برميل نفط في اليوم، سيبقى نحو 600 ألف برميل في اليوم بنهاية العام يصل أوروبا عن طريق الأنابيب. بالنسبة للنفط المنقول بحرا من روسيا، يمكن خفضه بنسبة 60 إلى 70 في المائة، اعتمادا على مدى نجاح روسيا في تجاوز الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني أن بحلول نهاية العام، قد يستمر تدفق 0.8 - 1.0 مليون برميل يوميا من النفط الروسي إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق البحر. في المجمل، قد تفقد صادرات النفط الروسية إلى الاتحاد الأوروبي أكثر من نصف 3.2 مليون برميل يوميا وستكون عند مستوى 1.4 - 1.6 مليون برميل يوميا بنهاية عام 2022. بالطبع، هذا تقييم تقريبي يتأثر بعدد كبير من العوامل المختلفة، لكن الفكرة الأساسية هي أن حظر أوروبا للنفط الروسي لا يشكل تهديدا حيويا لصناعة النفط والغاز الروسية، حيث من المتوقع أن تبقى الأسعار مرتفعة.
في هذا النظام العالمي الجديد لتدفقات تجارة النفط، هناك قضية رئيسة ستنظر فيها السوق وصناع السياسات في الولايات المتحدة وأوروبا على المدى القريب. وهي ما إذا كان العالم لديه بالفعل طاقة إنتاجية فائضة كافية لتحل محل الواردات الروسية من الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه تلبي الطلب المتزايد على النفط في ظل إحجام الشركات العالمية عن زيادة الاستثمار بموارد جديدة.
في الواقع أدت الأزمة الأوكرانية والعقوبات من الغرب التي أعقبت ذلك، إلى قلب سلسلة توريد النفط العالمية بأكملها. تشهد سوق النفط الآن واحدة من أهم إعادة توجيه لتدفقات النفط في العقود الأخيرة، التي قد تغير طرق تجارة النفط العالمية إلى الأبد.
نقلا عن الاقتصادية