في كل موجة تضخم يقترح مقترحون رفع سعر صرف الريال، لعله يخفف شر التضخم. وسألني أكثر من سائل عن رأيي في هذا الاقتراح. لدي قناعة بأن مضار رفع قيمة الريال أكثر من المنافع من حيث النظر العام، وليس النظر الخاص لطرف بعينه. أما من حيث التفصيل فإن الأمر أعقد كثيرا مما يتوقع الأكثرية. الأمر يتطلب دراسات متخصصة شاملة لفهم أعمق للمنافع والمضار. والمقال عبارة عن استعراض سريع لأهم المنافع والمضار. ومن المهم التنبيه في البداية إلى أن موضوع سعر صرف الريال بالدولار، موضوع مستقل عن موضوع ربط الريال بالدولار.
جوهر المنافع يتمثل في أن رفع سعر الصرف سيسهم في خفض تكلفة الواردات من سلع وخدمات، ومن ثم خفض المستوى العام للتضخم بدرجة ما. ومن جهة فئات المنتفعين فإن الرفع سيرخص تكاليف السياحة والدراسة خارج المملكة. لكن من المهم التنبيه على نقطة. لن تذهب إلى المستهلكين كل الفائدة من خفض تكلفة الواردات. بتعبير آخر، لن تنخفض عموم أسعار السلع المستوردة بالنسبة نفسها التي ارتفعت فيها أسعار الصرف.
ولكن ما الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل رفع سعر الصرف؟
رفع أثمان الصادرات السعودية غير النفطية، لأنها أصلا مسعرة بالريال. لكن قد يقول قائل نحن لا نعتمد كثيرا في الوقت الحالي الذي نعاني فيه التضخم على ذلك النوع من الصادرات، ولذلك ينبغي ألا نعطي في الوقت الحاضر كبير أهمية لرفع أثمان هذه الصادرات. وأرد على هذا الرأي بأنه ينبغي أن نرى الصورة من زاوية أبعد وقتا ومجالا. ورغم أننا لم نصل بعد إلى مستوى كبير لهذا النوع من الصادرات، لكننا نعمل بقوة على زيادة حجم هذه الصادرات. هذه الزيادة جزء من الرؤية بسياسة تعميق تنويع مصادر الدخل.
من المضار أن الوافدين يحولون ما يساوي مليارات الريالات إلى الخارج شهريا. ورفع قيمة الريال سيزيد من حدة المشكلة، لأن رواتبهم مقومة بالدولار ستزيد. بمعنى آخر، الرفع سيزيد نهم الاستيراد ليس فقط للسلع، بل وأيضا لليد العاملة (الاستقدام).
من المضار، إضعاف صافي قدرة الإنتاج المحلي التنافسية. وهذه من علامات إصابة الاقتصاد بما يشبه المرض الهولندي Dutch disease.
المرض الهولندي يقصد به تضرر قطاع من جراء ازدهار قطاع آخر. وأصل إطلاق هذه العبارة كان على الآثار غير المرغوب فيها على الصناعة الهولندية من جراء اكتشاف الغاز الطبيعي في القرن الـ19 الميلادي. ذلك لأن هذا الاكتشاف تسبب في زيادة أجور اليد العاملة الهولندية مقارنة بالأجور في ألمانيا، وارتفاع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة الهولندية، وهذا بدوره أدى إلى ضعف منافسة الصناعة الهولندية في الداخل والخارج.
كيف يحدث ما يشبه المرض الهولندي في اقتصاد كالاقتصاد السعودي فيما يخص موضوعنا؟ زيادة سعر الصرف ستوحي للناس بزيادة دخولهم مقومة بالدولار. ومن نتائج ذلك زيادة إنفاق استهلاكي، ومن ثم فائض في الطلب على الخدمات والسلع واليد العاملة، وهذا هو الأثر الإنفاقي. وينشأ من فائض الطلب زيادة الأسعار النسبية للخدمات والسلع غير القابلة للتداول في التجارة الدولية، مقارنة بأسعار السلع القابلة لأن تستورد. وتبعا، تتوسع حصة قطاعات الخدمات، وينخفض قطاع الصناعة التحويلية (خلاف الصناعات القائمة على الموارد النفطية) أو يتباطأ نموها.
للرفع تكلفة فرصة. يعطي علم الاقتصاد لموضوع تكلفة الفرصة، أو بتعبير آخر تكلفة فرصة القيام بعمل من الأعمال Opportunity Cost، أهمية كبيرة، وهي تعني قيمة أحسن اختيار متروك. بمعنى أنه لا يمكن تحقيق كل الرغبات، واختيار رغبة يعني التضحية برغبة أخرى. وبما أن الرغبات المتروكة (المضحى بها) ليست متساوية الأهمية، فان تكلفة الفرصة لدى الاقتصاديين يقصد بها أعلى قيمة متوقعة لأول خيار بديل. وتكلفة الفرصة مسألة تقديرية.
لنستخدم هذه الفكرة في موضوع رفع أو عدم رفع سعر الصرف. إن فائدة الرفع لن تذهب كلها للمستهلكين، بل ستتوزع على ثلاثة أطراف: دول التصدير، والتجار (المحليين)، والمستهلكين. والتحليل الاقتصادي للتغير في الأسعار يثبت ذلك، ولكن المقام لا يتسع لشرح هذه النقطة. ولذلك لن يكون لرفع سعر الصرف تأثير في التضخم بصورة واضحة، إلا إذا كان الرفع بنسبة عالية. ولكن الرفع بنسبة عالية غير وارد أصلا، لشدة مضاره.
ما التأثير في المالية العامة بصورة مبسطة جدا؟ لنفترض مليار دولار إيرادات صادرات نفطية في وقت ما. هذا يعني أن إيرادات المالية العامة من تلك الصادرات ثلاثة مليارات وثلاثة أرباع المليار ريال على أساس سعر الصرف الحالي.
رفع سعر الصرف إلى ثلاثة ريالات ونصف للدولار يحقق ثلاثة مليارات ونصف مليار ريال. والنتيجة خسارة ربع مليار ريال. باستخدام المثال السابق للمقارنة بين الوضعين إبقاء سعر الصرف أو رفعه، فإنه أنفع للناس الإبقاء، مع تحويل جزء كبير من ربع المليار لزيادة دعم المواطنين الأكثر احتياجا. ومن الأهمية أيضا دعم قطاع الصناعة التحويلية وغيرها من القطاعات الإنتاجية، وبالتالي فإن دعم هاتين الفئتين هو ما نرى الدولة تعمل على تحقيقه. وفق الله الجهود وزادها نفعا للعباد والبلاد.
نقلا عن الاقتصادية