مع كل حدث اقتصادي عالمي، العالم إما يتعلم أمور جديدة عن الاقتصاد، أو يتم تذكيره بأهمية دروس اقتصادية قديمة. حرب روسيا مع جارتها أوكرانيا، والعقوبات الاقتصادية التابعة لها، نتج عنها دروس اقتصادية عديدة، لكن برأيي أكبر درس مستفاد، والدرس الذي أظن لم ينال حصته من الضوء، يتعلق بأثر العقوبات على الاقتصاد الملموس لروسيا وعلاقة الاقتصاد الملوس مع الاقتصاد المالي. ما نراه اليوم في الاقتصاد الروسي هو درس عن أهمية التركيز على الاقتصاد الملموس وليس "الاقتصاد الورقي".
دعوني أبدا بشرح ما اقصده عن الفرق بين الاقتصاد الملموس والاقتصاد الورقي. في معظم الأوقات والأحوال، لايوجد فرق بينهما. لنتخيل مثلاً الدولة أ نتتج حليب، والدولة ب نتتج ملابس. قيمة الملابس أعلى من الحليب، فالدولة ب يصبح لديها مال أكثر، واقتصاد الدولة ب، على الورق، يستطيع "إنتاج" كمية من الحليب، عن طريق بيع الملابس وشراء حليب من الدولة أ. في هذه الحالة يتم ما يسمى بالاقتصاد بالتركيز على الميزة التنافسية لكل دولة. هنا، كمية "س" من الملابس، على الورق، تستطيع "إنتاج" بها كمية "ص" من الحليب. لنقول دولة تطرفت في اقتصادها، وأصبحت فقط تنتج ملابس، لكن بسبب الميزة التنافسية حقتها، كل العالم يشتري الملابس فقط لديها، ويصبح لديها كمية ضخمة من النقود (على شكل عملات أجنبية)، و ينمو اقتصادها بشكل مستمر وصحي. على الورق، اقتصاد الدولة في وضع سليم. اقتصاد الدولة يستطيع "إنتاج" جميع ما يتطلبه مواطنيها عن طريق بيع الملابس وشراء جميع المستوردات الملوسة المطلوبة لهم. لكن لنقول يوماً ما العالم قرر يفرض عقوبات على الدولة؟ وقتها لا يهم ما كان رقم الناتج المحلي للدولة قبل، جميع المعايير الكمية التي يقاس بها صحة الاقتصاد تصبح عديمة الجدوى. فائض المال الورقي الذي كان لديها لم يصبح له قيمة. جميع الأرقام التي كانت على الورق المشيرة أن صحة الاقتصاد ممتاز، اصبحت لا تمثل الواقع. المغزى هنا أن في بعض الحالات، الاقتصاد الورقي (وهنا يقصد به الأرقام على الورق التي يقاس بها الوضع المالي للبلد) تصبح خالية من الأهمية. المهم الآن هو ما يستطيع الاقتصاد إنتاجه بشكل مباشر، بشكل ملموس. المال في الاقتصاد هو وسيلة فقط لمعالجة المعلومات المتعلقة بالسلع والخدمات. المال في ذاته لا قيمة له. الغرض من النقود هي أرقام على ورق تساعد في تسهيل عمليات ملموسة.
قد يظن البعض أن السيناريو السابق فقط يتعلق بالدول التي يتم فرض عقوبات عليها، لكن أيضاً يمس الدول التي تفرض العقوبات. أفضل مثال على ذلك هي ألمانيا الإتحادية. لعقود طويلة، كانت الحكومة الألمانية مهووسة الاقتصاد الورقي (على شكل تقليل عجز الميزانية العامة). من أجل ذلك، رفضت الاستثمار ببعض المشاريع المتعلقة بالطاقة، محطات لتحويل الغاز السائل أو تقبل نسبة أعلى من الدين العام من أجل المزيد من البنية التحتية اللازمة لتقليل الإعتماد على الطاقة الروسية. هذه القرارات أتت من أجل تحسين الاقتصاد الورقي (الدين العام) لكن الآن من الحرب، أصبح واضح أن كان من الأجدر التركيز على الاقتصاد الملموس. والآن بسبب الأزمة وتأثيره على أسعار النفط والغاز، وبسبب فرض أمريكا إلغاء تشغيل مشروع نقل الغاز المسمى (Nordstream 2)، سيساء وضع الاقتصاد الورقي لألمانيا.
طبعاً، جميع ما ذكرته سابقاً يأتي فقط بسبب حدوث التحركات العالمية النادرة. في معظم الأوقات، التركيز على الاقتصاد الورقي هو ما يجب أن تفعله الدول لأن يوجد علاقة وطيدة قوية بين الأرقام على الورق (مثلاً كمية العملات الأجنبية التي تتواجد لدى البنك المركزي) والاقتصاد الملموس (كمية السيارات التي يمكن إستيرادها عن طريق هذه العملات الأجنبية). لذلك من الصعب جداً التفكير بشكل استراتيجي عن ما يجب فعله في حال إنفصال أو ضعف علاقة الاقتصاد الورقي بالملموس. لكن كما أتضح لنا خلال الخمس سنين الماضية، فرصة وجود تحركات عالمية تؤثر على علاقة نوعي الاقتصاد المذكورة أعلى مما كنا نتوقع، ولذلك علينا التفكير بشكل جدي في ذلك. مثال على سياسة معينة تمس هذا الواقع هو تقبل خسارة اقتصادية ناتجة عن استبدال إستيراد بعض المنتجات (كالأدوية) بمصانع محلية تنتج هذه المنتجات بتكلفة أعلى بكثير من لو تم إستيرادها. على الورق هذا سوف يضعف الاقتصاد، لكن لو لا سمح الله أصبحنا في وضع يصعب علينا إستيراد بعض المنتجات، آنذاك قدرتنا على الإنتاج المحلي سيكون ذو قيمة عالية جداً.
خاص_الفابيتا