يعتقد عديد من السياسيين، خصوصا الغربيين، أن أسعار الطاقة المرتفعة، ونقص وقود الديزل الذي يلوح في الأفق مع بداية موسم الصيف، وراء أزمة الطاقة الحالية، لكن في الواقع ما هذه إلا مظاهر لتحديات أعمق وأكبر في صناعة الطاقة العالمية.
إن نقص الاستثمار في العقد الماضي أو نحو ذلك جعل أوروبا وبدرجة أقل نسبيا أمريكا الشمالية، هدفهم الرئيس تقليل الاعتماد على النفط والغاز، وزيادة اعتمادهم على مصادر الطاقة المتجددة. وحفز هذا التوجه خروج رؤوس الأموال من قطاع النفط والغاز، وظهور ما يسمى الاتجاه الاستثماري البيئي، الاجتماعي والحوكمة ESG. وأصبح من الصعب استفادة مشاريع النفط والغاز الجديدة من التمويل مع انضمام عديد من البنوك إلى هذا التوجه الاستثماري، ما اضطر شركات النفط والغاز إلى تقليص الإنفاق.
في هذا الجانب، أكد الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي، في وقت سابق من هذا العام، أن نقص الاستثمار في النفط والغاز سيكون له تأثير مرتد في المستهلكين، وهو ليس الوحيد، حيث وجه عديد من مسؤولي منظمة "أوبك" التحذيرات نفسها للدول المستهلكة التي لم تستفد منها.
بعد كل ذلك، قالت وكالة الطاقة الدولية، العام الماضي، إن العالم لا يحتاج إلى استكشافات جديدة للنفط والغاز لأننا لن نحتاج إلى مزيد من إمدادات النفط أو الغاز الجديدة، لكن بعد بضعة أشهر فقط - وكعإمدادات النفطادتها - غيرت من لهجتها، داعية "أوبك" إلى زيادة الإنتاج، وأظهرت واحدة من الحقائق القاسية لصناعة الطاقة: لا يمكنك عكس العملية التي كانت مستمرة لعقود طويلة في غضون أشهر أو حتى بضعة أعوام.
بالطبع نقص الاستثمار أدى إلى معدلات استكشاف منخفضة. هذا الموضوع لا يتم الحديث عنه كثيرا، متوسط معدل اكتشافات النفط والغاز الجديدة، يمكن مقارنته بطريقة ما بمتوسط معدل كفاءة الألواح الشمسية: فهو أقل بكثير من 30 في المائة. في هذا الجانب ذكرت وكالة "بلومبيرج"، أخيرا، أن ثلاث آبار حفرتها شركة شل قبالة سواحل البرازيل لم تسفر عن اكتشافات وكانت جافة. كانت الشركة قد دفعت مليار دولار مقابل حقوق الحفر في المنطقة وأمضت ثلاثة أعوام في الحفر لتخرج خالية الوفاض. وفشلت "إكسون" أيضا في الاستفادة من أي احتياطيات نفطية كبيرة في منطقتها الاستكشافية قبالة سواحل البرازيل، التي كلفتها 1.6 مليار دولار.
هذه الإخفاقات تسلط الضوء على الطبيعة المحفوفة بالمخاطر للتنقيب عن النفط والغاز حتى في أماكن واعدة مثل البرازيل، ووصفت بأنها النقطة الساخنة التالية في الصناعة، ربما إلى جانب غينيا. أصبحت البرازيل نقطة جذب للشركات العملاقة بسبب التجمعات النفطية الغزيرة تحت الطبقات الملحية Pre-salt zone، لكن الاكتشافات الكبيرة قد تم إجراؤها بالفعل في البداية، عندما كان معدل الاكتشاف قريبا من 100 في المائة. لكن متوسط معدل الاكتشافات الناجحة لصناعة النفط والغاز أقل بكثير من ذلك، عند 24.8 في المائة، وفقا لـ "بلومبيرج". وهناك عدد أقل من الاكتشافات الكبيرة التي يتعين القيام بها.
إن تزامن هذا مع تضخم تكاليف الإنتاج. جزء كبير من اتجاهات التضخم العالمي كان مدفوعا بارتفاع تكاليف الطاقة، ولم يتجاوز صناعة الطاقة نفسها. على سبيل المثال، ارتفعت تكاليف الإنتاج في تشكيلات النفط الصخري في الولايات المتحدة بنحو 20 في المائة. في هذا الجانب، حذرت شركة Continental Resources وHess Corp أخيرا من أنهما ستبلغان عن تكاليف أعلى للربع الثاني، وهما ليستا الوحيدتين اللتين تعانيان هذه التكاليف المرتفعة.
يعد نقص المواد الخام، مثل الرمال التي تستخدم في عمليات التكسير الهيدروليكي، والأنابيب الفولاذية للآبار، أحد أسباب ارتفاع تكاليف الإنتاج، ليس فقط في تشكيلات النفط الصخري، لكن في أي مكان يتم استخدام هذه المواد الخام في حقول النفط. يمثل نقص العمالة مشكلة خاصة أيضا بالنسبة إلى تشكيلات النفط الصخري في الولايات المتحدة، ما يساعد على زيادة تكاليف الإنتاج. كما تندرج مشكلات سلسلة التوريد المستمرة منذ الوباء في هذا الجانب. المشكلة الأكبر هي أن الصناعة لا تتوقع أيضا أي فترة راحة في الأشهر المقبلة. يأتي ضغط تكاليف الإنتاج في وقت يحتاج فيه العالم حقا إلى مزيد من النفط والغاز، وهو على الأرجح أسوأ وقت ممكن لأنه يثني شركات النفط والغاز عن إنفاق مزيد على عمليات الحفر الجديدة.
التحدي الكبير الآخر هو الهجمات السيبرانية. في الأعوام القليلة الماضية أصبح الأمن السيبراني مدعاة للقلق في صناعة الطاقة حيث تضاعفت الهجمات الإلكترونية بشكل كبير. بالفعل ساعد قرصنة خط الأنابيب Colonial على وضع الأمور في منظورها الصحيح على جبهة الأمن السيبراني، لكن على ما يبدو لم يتبع ذلك سوى قليل من الإجراءات. كشفت دراسة استقصائية جديدة أجرتها شركة DNV أخيرا، وهي شركة استشارات نرويجية مختصة بتقييم المخاطر وضمان الجودة، أن الصناعة غير مرتاحة تماما بشأن التهديدات السيبرانية، والأسوأ من ذلك أنها ليست مستعدة للتعامل معها. وفقا للدراسة، يتوقع 84 في المائة من المديرين التنفيذيين أن الهجمات الإلكترونية ستؤدي إلى أضرار مادية لأصول الطاقة، بينما يتوقع أكثر من النصف "54 في المائة" أن تؤدي الهجمات الإلكترونية إلى خسائر في الأرواح البشرية. يتوقع نحو 74 في المائة حدوث أضرار بيئية نتيجة لهجوم إلكتروني. وفقط 30 في المائة يعرفون ماذا يفعلون إذا أصبحت شركتهم هدفا لمثل هذا الهجوم.
أخيرا وليس آخرا، تواجه صناعة الطاقة مخاطر جيوسياسية. حيث تعد هذه من أكثر المخاطر المزمنة في صناعة الطاقة، ليست بعيدة أبدا عندما تبدأ الأسعار بالتأرجح بشكل كبير جدا، أو كما هي الحال الآن، تظل مرتفعة بعناد. رغم أن فرض حظر نفطي من الاتحاد الأوروبي على روسيا لم يتم التوصل إليه حتى الآن، إلا أنه أحد العوامل الصعودية الكبيرة لأسعار النفط. ومن الأمور الأخرى عدم إحراز تقدم في المحادثات النووية الإيرانية واحتمال فشلها.
لا يبدو أن روسيا نفسها منزعجة من احتمالات الحظر على الإطلاق. في هذا الجانب، قال ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء، الأسبوع الماضي: "النفط نفسه الذي تشتريه دول الاتحاد الأوروبي منا سيتعين عليها شراؤه من مكان آخر وسيدفعون أكثر لأن الأسعار سترتفع بالتأكيد".
نقلا عن الاقتصادية