أكدت النظرية الاقتصادية وتطبيقاتها على أرض الواقع أن العلاقة عكسية بين معدل الفائدة ومعدل التضخم ومستويات الأسعار عموما، وعلى رأسها أسعار العقار، وتتفاوت قوة تلك العلاقة أو ضعفها وفقا لأوضاع الاقتصاد الكلي، وهل نتج ارتفاع معدل التضخم عن وجود نمو اقتصادي مطرد، ومن ثم تنامى الطلب على المنتجات والسلع والخدمات في الاقتصاد، أو أن التضخم جاء نتيجة تسارع ضخ النقود في الاقتصاد، في الوقت ذاته الذي كان نموه متدنيا أو حتى سلبيا. والتأكيد هنا أن آثار رفع أو خفض معدل الفائدة قد تأتي أقوى في الوضع الاقتصادي الأدنى نموا، ففي حال خفض معدل الفائدة بوجود نمو اقتصادي متباطئ، قد يتسارع معدل التضخم بوتيرة أسرع مما في الحال الأولى، وهو ما حدث خلال أكثر من عقد زمني مضى، من بعد الأزمة المالية العالمية 2008، وتزامنت مع ضخ أكثر من 12 تريليون دولار حتى ما قبل الجائحة العالمية لكوفيد - 19، التي سرعان ما عادت بعدها البنوك المركزية إلى خفض معدلات الفائدة، وزيادة ضخ النقود في الاقتصادات، وذهب أغلبها إلى الأسواق، ما ترتب عليه مزيد من الارتفاع في أسعار مختلف الأصول، وارتفاع معدل التضخم في أغلب الاقتصادات، ووصوله إلى أعلى مستوياته في منظور أكثر من أربعة عقود من الزمن، في الوقت ذاته الذي لم تشهد معدلات النمو الاقتصادي الارتفاع المنشود من خفض معدل الفائدة، وجاء أغلبها أدنى من معدل التضخم. كما لا يصح إغفال عوامل أخرى تتدخل في تحديد قوة تأثير تلك العلاقة العكسية، وهو ما سيأتي ذكر أهمها وأبرزها في الجزء التالي.
من تلك العوامل الأخرى التي تتدخل في تحديد قوة العلاقة أعلاه ما يتعلق بالمدى الزمني الذي تستغرقه البنوك المركزية في مسار رفع أو خفض معدل الفائدة، إضافة إلى سرعة وتيرة التغيير في المعدل سواء بالرفع أو الخفض، وفقا لأوضاع الاقتصاد الكلي حسبما تم إيضاحه أعلاه. كما تتأثر قوة تلك العلاقة بحجم الرفع أو الخفض، بحال كان كبيرا فسيكون له الأثر الأقوى بالتأكيد، وهو ما قام بحسابه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أخيرا، بزيادة الرفع الأخير من مستوى 25 نقطة أساس إلى 50 نقطة أساس، واستبعد من على طاولته خلال الفترة الراهنة الوصول إلى 75 نقطة أساس. وأخيرا وليس آخرا، من العوامل التي تتدخل في تحديد تلك القوة، الأوضاع التي يعايشها الاقتصاد العالمي، كالارتفاعات الراهنة التي تشهدها أسواق الطاقة والمعادن والمواد الغذائية والأسمدة، وتعطل سلاسل التوريد العالمية، والانخفاض المستمر في العمالة، والتداعيات الناشئة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، وحديثا قيام الصين بفرض عمليات إغلاق صارمة في شنغهاي وفي مدن أخرى، ما ضاعف بدوره من الضغوط على سلاسل التوريد العالمية، وأحدث مزيدا من الاختناقات في قطاع النقل. وهو ما يعيد الذاكرة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي إلى فترة السبعينيات الميلادية، حينما قفز معدل التضخم من 2.7 في المائة حزيران (يونيو) 1972، إلى أن وصل إلى 14.8 في المائة آذار (مارس) 1980، ورغم التحرك الكبير للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حينئذ للسيطرة على التضخم، وقيامه للفترة نفسها برفع معدل الفائدة من 4.5 في المائة إلى أن وصل بها إلى 22.0 في المائة كانون الأول (ديسمبر) 1980، إلا أنه لم يتمكن من العودة بمعدل التضخم إلى ما دون 3.0 في المائة إلا بعد نحو ثلاثة أعوام تالية، ورغم ذلك ظل محافظا على معدل فائدة قريب من 10.0 في المائة أو أعلى منها طوال الأعوام الخمسة التالية، وهي الفترة التي شهدت ارتفاع أسعار النفط في طفرته الأولى.
نأتي الآن إلى الفترة الراهنة التي ما زالت الاقتصادات لم تبرأ من آثار الجائحة العالمية لكوفيد - 19، ولم تبرأ أيضا قبل ذلك من آثار الأزمة المالية العالمية 2008، ما نتج عنه تباطؤ أو تراجع في معدلات النمو الاقتصادي العالمي، في الوقت ذاته الذي أصبح العالم يواجه معدلات تضخم مرتفعة أعادته إلى حقبة مطلع الثمانينيات الميلادية، وارتفاعات أكبر في الأسواق المالية العالمية، إضافة إلى أسواق العقار حول العالم، وفق بيانات بنك التسويات الدولية BIS. ومع بدء تحرك البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالعمل المتأخر على رفع معدل الفائدة، لمواجهة تحديات وصول معدل التضخم إلى أعلى مستويات في منظور أربعة عقود زمنية مضت، سرعان ما تضاعفت على أثره خسائر الأسواق المالية العالمية التي بدأتها منذ مطلع العام الجاري، مكابدة خسائر تجاوزت 9 في المائة Dow Jones، ووصلت إلى أعلى من 22 في المائة NASDAQ، وقد تتضاعف حدة تقلبات وخسائر الأسواق العالمية خلال الفترة المقبلة بالتزامن مع اندفاع البنوك المركزية نحو رفع معدلات الفائدة السائدة. وبالنسبة لأسواق العقار، التي سجلت ارتفاعات قياسية طوال خلال أقل من عقد زمني مضى، بالتزامن مع تدني معدلات الفائدة إلى مستويات صفرية، وزيادة ضخ النقود في القطاع البنكي، وصلت - على سبيل المثال - إلى نحو 90.0 في المائة في أيرلندا، و68.1 في المائة في الولايات المتحدة، و61.2 في المائة في ألمانيا، علما أنها كانت قد سجلت انخفاضات قياسية بالتزامن مع ارتفاع معدلات الفائدة سابقا، كانت قد وصلت خسائر الأسواق العقارية في الدول نفسها إلى 56.1 في المائة في أيرلندا، و39.3 في المائة في الولايات المتحدة، و24.7 في المائة في ألمانيا. وقد لا يبدأ آثار رفع معدلات الفائدة سريعا، كما حدث للأسواق المالية، خاصة أن البنوك المركزية ما زالت في بداية منهجيتها الراهنة بالرفع، والمتوقع أن تستغرق فترة تمتد لأكثر من عامين مقبلين، والأخذ في الحسبان ما قد تترتب عليه التطورات العالمية الراهنة على الاقتصادات والأسواق التي سيكون لها بكل تأكيد تأثير واضح على توجهات البنوك المركزية على مستوى تحديدها لمعدلات الفائدة، سواء بالمضي قدما في اتجاه الرفع، أو التوقف وسط الطريق، أو حتى العودة إلى وتيرة الخفض مجددا متى اقتضت الضرورة.
أما على المستوى المحلي، فسيكون هذا موضوع المقال المقبل - بمشيئة الله تعالى -، والتركيز خلاله بدرجة أكبر على علاقة هذه التطورات بالسوق العقارية والأسعار المتضخمة التي تتضمنها، مع الأخذ في الحسبان أن معدل التضخم في السعودية يعد حتى تاريخه متدنيا "نحو 2.0 في المائة بنهاية آذار (مارس) الماضي"، كما لا تزال السوق المالية محافظة على وتيرة نموها القياسية لارتفاع كعب محفزاتها على الكعب الآخر للتحديات من حولنا، وأظهرت استقلالية لافتة عن بقية الأسواق المالية، بارتفاع المؤشر العام بنسبة 21.7 في المائة حتى نهاية نيسان (أبريل) الماضي.
نقلا عن الاقتصادية