الاقتصادات والأسواق .. ترقب خارج الأسوار

11/04/2022 0
عبد الحميد العمري

قطعت الأسواق والاقتصادات أشواط ما بعد تراجع تداعيات الجائحة العالمية لكوفيد - 19 بكثير من التطلعات، نجح من نجح منها وتعثر من تعثر، وفي تلك الأثناء سرعان ما ظهرت آثار التيسير الكمي حاملة معها موجات تضخمية غير مسبوقة في منظور أربعة إلى خمسة عقود مضت، دفعت بالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومن خلفه البنوك المركزية، إلى اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للتضخم، عبر رفع معدل الفائدة سعيا إلى السيطرة قدر الإمكان عليه، وهو ما لم تنجح فيه حتى تاريخه، خاصة مع اشتعال الصراع الروسي - الأوكراني، الذي ألهب ارتفاع أسعار الغذاء والمواد الخام والسلع والمنتجات حول العالم، ودفع بوتيرة التضخم نحو الصعود بقوة فاقت كل التدابير التي قررتها البنوك المركزية حتى الآن، وفاقت توقعات ارتفاعها جميع الجهود المجدول إقرارها من قبل البنوك المركزية خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة. ولهذا وصف موقف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وأغلب البنوك المركزية حول العالم أمام التحديات الراهنة، بأنه من أكثر المواقف صعوبة عليها طوال المائة عام الماضية، ذلك أنه في الجانب الآخر من نهر التطورات الراهنة على سطح الاقتصاد العالمي، وبكل ما يحمله من مكونات بعضها أقرب إلى حطام العقود الماضية، تقف البنوك المركزية على قمة الحذر إزاء سياساتها المستهدفة الحد من معدل التضخم، كي لا تصل إلى التأثير العكسي على وتيرة النمو الاقتصادي والتوظيف، ما قد ينتج عنه دخول الاقتصاد العالمي في موجة ركود سيكون وقعها أشد تأثيرا من كل موجات الركود السابقة طوال العقود الماضية، لأن البنوك المركزية استنفدت جبالا هائلة من أموال التيسير الكمي بصورة غير مسبوقة، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية 2008 وكررتها كثيرا حتى مجيء الجائحة العالمية الأخيرة.

إنه المأزق الذي اختصره الكاتبان الاقتصاديان نوريال روبيني، وبرونيلو روزا، في مقالهما الأخير، بعنوان: "هل الركود التضخمي الجديد مقاوم للسياسات؟": "ستضطر البنوك المركزية إلى مواصلة محاولات التوفيق بين هدفين غير متوافقين، ترويض التضخم، والإبقاء في الوقت ذاته على أسعار الفائدة طويلة الأجل - أو الفوارق داخل منطقة اليورو - منخفضة من خلال سياسات الحفاظ على الميزانية العمومية. وفي الوقت ذاته، ستستمر الحكومات في تغذية الضغوط التضخمية من خلال الحوافز المالية والعقوبات المستمرة. بمرور الوقت، قد تتسبب السياسات النقدية الأكثر إحكاما في تباطؤ النمو أو الركود الصريح. لكن خطر آخر يتمثل في تقييد السياسة النقدية بفعل تهديد الانزلاق إلى فخ الديون. ومع ارتفاع الديون العامة والخاصة إلى مستويات تاريخية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي، لا يستطيع القائمون على البنوك المركزية دفع تطبيع السياسة إلى مسافة أبعد دون أن يجازفوا بإحداث انهيار مالي في أسواق الديون والأسهم".

يشير الواقع الراهن للاقتصادات والأسواق بعد أكثر من عقد زمني سبق اشتعال الأزمة المالية العالمية في 2008، وما تلاها من أزمات عديدة انتهت بالجائحة العالمية لكوفيد - 19، وعادت للاشتعال مجددا مع نشوب الصراع الروسي - الأوكراني الراهن، إلى أن المؤشرات العكسية للاقتصادات والأسواق التي بدأت تطل برأسها من خارج الأسوار، أصبح حضورها أقوى من أي مؤشرات أخرى يحاول بعض البنوك المركزية وأغلب كبار المستثمرين التعلق بها. إنه الواقع الممهد للقبول عن رضا أو خلاف ذلك بانهيار منظومة العولمة الرأسمالية الغربية التي صعدت سحابتها للسيطرة على الاقتصاد العالمي منذ نحو ثلاثة عقود مضت، وبدأت مع تتابع الضربات أو الأزمات القاسية، خاصة طوال العقد الزمني الماضي، بالترنح والتسبب في إيقاع كثير من الخسائر الفادحة على الاقتصادات والأسواق حول العالم، والذهاب من ثم إلى أنه ووفقا لكثير من الطروحات الفكرية والاقتصادية، خصوصا أن العالم يتجه إلى الانسلاخ عن تلك المنظومة الرأسمالية، والقفز من مركبتها العملاقة، وبدء التكتلات الإقليمية والاقتصادية في البحث بالدرجة الأولى عن سبل جديدة للنجاة، وقد تبدأ التكتلات الأكثر نجاحا في تلك المسارات المنفردة، بالتفكير في بناء منظومة عالمية جديدة تتجاوز بمقدراتها ومواردها المكتسبة، الوضع المتهالك الذي أصبحت تقف عليه العولمة الرأسمالية الغربية الراهنة، المحملة بالديون بأكثر من 71 تريليون دولار والعجز المالي والتجاري والتضخم والأسقام الأخرى العديدة، أكثر مما كانت تحمله من وعود براقة ساعة ولادتها قبل أكثر من ثلاثة عقود زمنية مضت.

سيكون ما تبقى من العام الجاري فترة صعبة جدا على الاقتصادات والأسواق، وسيتحول ما سيجري خلاله من تطورات وإجراءات واسعة ستتخذها الحكومات والبنوك المركزية في مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، كل ذلك سيكون مجتمعا "القلم" العملاق الذي سيرسم بدايات الوجه الاقتصادي العالمي المقبل، والتأكيد أيضا أن "القلم" الأكبر للمؤشرات خارج الأسوار، سيكون خطه الأكثر تأثيرا في تفاصيل الوجه الاقتصادي العالمي الجديد، ولا أحد يمتلك القدر الكافي من اليقين حول ما سيكون عليه ذلك الوجه، إلا التمسك ببعض اليقين المرتبط بما تمتلك الاقتصادات والكيانات المتحدة ضمنيا خلال الفترة الراهنة، من موارد وإمكانات وخيارات، ستكون قياسا على أرقام وحقائق اليوم هي الأرض الصلبة التي يمكن الوقوف عليها، وقد تبقى كذلك أو قد تفقدها أو قد تتضاعف حسبما سيأتي من تطورات وتغيرات جذرية على المشهد الاقتصادي العالمي، ولا يبقى لدى الجميع إلا مراقبة ومتابعة ما سيأتي من تحولات وتغيرات على الاقتصادات والأسواق.

 

نقلا عن الاقتصادية