نادرا ما تكون الصورة الاقتصادية واضحة، ولذلك هناك جدل مستمر، خاصة حين يكون الموضوع اقتصادات الدول النامية وأنماط علاقتها مع الدول المتقدمة. تزداد وتيرة الحذر والانتظار حين تتغير السياسة النقدية في الدول الرئيسة، خاصة الأمريكية. تزداد أهمية التغير نحو التشدد "تقليل التيسير الكمي ورفع الفوائد" على خلفية التعامل مع تداعيات أزمة كورونا التي أجبرت دولا كثيرة على زيادة الدين والفوارق الاقتصادية في داخل كل دول العالم تقريبا. نظرا إلى تداخل العناصر والعوامل المؤثرة، لعله من الأفضل فرزها لفهم البيئة الحالية.
يشكل النمو الاقتصادي الطريق الواضح للتعامل مع التحديات الاقتصادية والمالية، خاصة كلما يكون رتيبا ومتوازنا، فهو ما يقود إلى رفع مستوى الحياة المادية بدخل وتوظيف أعلى للعامة، واستثمارات وتعامل مريح مع الديون واستقرار في العملة والعلاقات التجارية مع العالم. اعتاد العالم على نمو اقتصادي أعلى في الدول النامية منه في الدول المتقدمة بسبب أن نقطة البداية والسعة تسمح بفارق للحاق بالدول الغنية، لكن ما يحدث اليوم أن الفجوة في النمو بين المجموعتين تضيق بسبب حجم الدين وعدم توافر الموارد الكافية لدى كثير من الدول النامية للتعامل مع تداعيات كورونا وتقلص التجارة والتنقل نسبيا. التقارب في نسب النمو لا يخدم الدول النامية لأن المخاطر أعلى، ما يجعلها أقل جاذبية للاستثمار. طبقا لتقديرات IMF كان الفارق نحو 5 في المائة، بينما منذ الأزمة المالية العالمية وصل تقريبا 2.5. لعل أهمها الصين، ولكن أيضا البرازيل ودولا أخرى.
العامل الآخر هو الدين الذي أصبح أسهل بسبب وفرة الفلوس إثر سياسات التيسير الكمي ونسب الفائدة المنخفضة. طبقا لوكالة فيتش للتصنيف المالي، أن الوسيط من 80 دولة نامية، ارتفعت نسبة الدين إلى الدخل القومي الإجمالي من 50 إلى 60 في المائة من 2019 إلى 2020، نسبة عالية جدا في خلال عام واحد. الإشكالية أكثر صعوبة لأصغر 50 دولة اقتصاديا، حيث نسبة الدين إلى GDP أعلى من 30 الكبيرة، وأيضا نسبة الدولار من القروض أعلى، ما يعرضها لمخاطر أعلى. لا يمكن فصل الدين المتنامي عن التغيرات في السياسة النقدية في أمريكا.
بدأ البنك الفيدرالي بتغيير السياسة، في آذار (مارس) 2022، سيتوقف عن التيسير الكمي، ولذلك بدأت الأسواق المالية في التكيف، كما عبر عنها ارتفاع الفائدة على السندات والتذبذب في أسواق الأسهم، الخطوة التالية أن يرفع الفوائد قصيرة الأجل على مدى العام لكبح جماح التضخم بداية من الشهر المقبل. تاريخيا، هذا ربما أهم عامل مؤثر في الدول النامية، كلما ارتفعت الفوائد على الدولار، ارتفعت الفوائد وهذه هي الإشكالية.
وسيقود إلى ارتفاع الدولار والعملات الصعبة الأخرى، ما يجعل التصدير أصعب لكثير من هذه الدول وخدمة الدين. عوامل مجتمعة مع انخفاض النمو في الصين الذي أثر في كثير من الدول النامية، خاصة التي في المراحل الأولى من التصنيع أو التي تعتمد على تصدير السلع، ما جعل الاستثمار في هذه الدول غير جذاب. هناك حالات مزمنة في سياساتها، مثل الأرجنتين وبعض الدول، مثل تركيا، اختارت تعميق الإشكالية لأسباب غير معروفة. ارتفاع أسعار السلع عوض للبعض، لكن ليس بالحجم الذي يميل بالكفة لأغلبها، ما عدا بعض الدول النفطية، خاصة في دول الخليج وروسيا. في المملكة لا بد أن التحسن في الميزانية سيكون واضحا، وربما بفائض مقنع في الربع الأول من العام وفي الأغلب للعام، إذ إن التوقعات حول العرض والطلب لا تزال إيجابية، في ظل استمرار التعاون مع دول معنية.
ارتفاع أرباح الشركات، خاصة المصارف وأسعار الأسهم في المملكة، دليل على حالة مالية مريحة. ولذلك هذا استثناء في صورة غير مريحة لأغلب الدول النامية، فقد خفضت فيتش تصنيفها لـ27 دولة في 2020، منها عدد من دول "مجموعة العشرين"، ومن أكبر الدول النامية، مثل المكسيك وجنوب إفريقيا وتركيا.
نقلا عن الاقتصادية