الإتقان إجادة العمل، والإتقان له مقام كبير في حضارات وقوانين وتعاملات البشر. وقد حث عليه ديننا الحنيف. وحظي باهتمام واسع متنوع في الرؤية. انعكس في تبني قيم التمكين والريادة والابتكار والاعتزاز والتحسين المستمر والتواصل الفعال. ومن البداهة أن إتقان الأداء شرط أساس في تحقيق هذه القيم.
في ديننا الحنيف وردت في الحث على الإتقان بطريقة مباشرة وغير مباشرة نصوص كثيرة من الكتاب والسنة. وليس هذا محل بسطها. ولعل أشهر نص ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، صححه العلامة الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة.
إتقان العمل يزيد الإنتاجية كما وكيفا. وتعبير "الإنتاجية" هو الشائع في كتب الاقتصاد، وفي كتب الإدارة يكثر استخدام التعبير بالجودة. والإنتاجية تعني مخرجات كل وحدة من عناصر الإنتاج المستخدمة رأس المال المادي أو البشري الذي يعبر عنه عادة بالعمل. وتزداد الإنتاجية بزيادة فعالية هذه العناصر، خاصة العمل الذي هو المقصود عادة عند الحديث عن الإنتاجية.
العوامل الدافعة إلى زيادة فعالية العمل كثيرة، ويركز الاقتصاديون تقليديا على عوامل كالتدريب. وإتقان العمل يندرج تحت ما يسمى في اللغة المعاصرة بأخلاقيات العمل. وأخلاقيات العمل سلوكيات تؤثر في الإنتاجية، وعلى رأس أخلاقيات العمل تحري النزاهة في أداء العمل، والانضباط، وتحري الجودة أو قل الإتقان في أداء العمل، أي: أن يتفانى الشخص في تطبيق معارفه ومهاراته ويحرص على خلو عمله من النقص والخلل والفساد قدر الإمكان. وهذه أمور أعطتها الرؤية بالغ الأهمية. نسأل لها التوفيق والنجاح.
من الملاحظ أن أخلاقيات العمل ليست موضع تركيز في التحليل الاقتصادي للعمل. لماذا؟ تطورت مناهج التحليل الحديثة في الغرب أكثر من تطورها في غيره. وعند الغرب يفترض أن الأخلاقيات موجودة أصلا. أي إن الأصل أن الموظفين والعاملين يلتزمون - على سبيل المثال - بساعات الدوام، ويلتزمون بالقوانين التي تحكم أعمالهم، ويتقنون أعمالهم وفق المهارات التي يملكونها دون حاجة قوية إلى مشرفين فوق رؤوسهم مباشرة طول الوقت لمكافحة التقصير والتهاون في أداء الواجبات. وتفوقت في هذا الشأن مجتمعات شرق آسيوية، كالمجتمع الياباني، على مجتمعات الغرب. لكن الأمر في الأغلب ليس كذلك في المجتمعات العربية مع الأسف. أتوقع أن القراء الأفاضل يوافقونني الرأي في ضعف إتقان العمل وأخلاقياته في نسبة كبيرة من أفراد مجتمعاتنا العربية مقارنة بالنسبة في المجتمعات الشرق آسيوية، كاليابانية أو المجتمعات الغربية.
الانضباط في المواعيد مثلا، علامة من علامات ثقافة الإتقان. ونعرف أن التعود على الانضباط راسخ في ثقافة مجتمعات كثيرة من الدول. بل تعودت تلك المجتمعات على تحديد ساعات حتى في المناسبات الاجتماعية المحضة، مدة وبداية ونهاية، فضلا عن غيرها. ولو سئل الناس في مجتمعاتنا العربية عن رأيهم في إتقان الموظف مقارنة بإتقان الموظف في دول كثيرة، كاليابان والصين والمجموعة الأوروبية، لكان الجواب - كما أرى - أن أولئك أكثر إتقانا. وطبعا الكلام على الأغلب، أي لا يمكن التعميم. فهناك في مجتمعاتنا العربية من يتقنون العمل إتقانا. بل هناك من يتفوقون، لكن كثير منهم لا يجدون التقدير الذي يجده الغربي.
البعض يمدح الإتقان، لكنه في الوقت نفسه لا يطبق ما يقول على نفسه. وقد ذم - سبحانه - الذين يفعلون ويمارسون خلاف ما يقولون أو يعلمون، يقول الحق - سبحانه وتعالى - في سورة الصف: «يَا أَيهَا الذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تفعلون، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون».
والاستفهام في قوله تعالى: «لم تقولون» للإنكار والتوبيخ على قول الإنسان قولا لا يؤيده فعله، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا، وإما أن يكون خلفا للوعد، وكلاهما يبغضه الله تعالى. وناداهم بصفة الإيمان الحق، إذ من شأنه أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله. وقوله سبحانه: «كبر» بمعنى عظم، والمقت: البغض الشديد، ومنه قوله تعالى: «وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا». وقال سبحانه: «كبر مقتا عند الله» للإشعار بمدى هذا البغض من الله تعالى.
من علامات ضعف أهمية وقيمة إتقان الأعمال في مجتمعات كثيرة، كون نسبة كبيرة من أفرادها تعودت التركيز في مدح فلان من الناس على كونه شهما ونحو ذلك. لكنهم لا يعطون الأهمية نفسها في المدح إذا كان معروفا عن فلان أنه منضبط في المواعيد مهتم بإتقان العمل. هذا يعكس ضعفا في تقاليد وعادات تلك المجتمعات في اهتمامها بهذه الجوانب. وهي قضية حظيت بعناية كبيرة في الرؤية وبرامجها، كما أسلفت في بداية المقال.
نقلا عن الاقتصادية