أوروبا متأخرة تقنياً عن منافساتها من الأمم، هذه حقيقة يدركها الاتحاد الأوروبي ويخشى تبعاتها منذ أكثر من عقدين، وفي محاولة للحاق بركب التقنية ودعم الصناعات عالية التقنية، فقد أطلق الاتحاد الأوروبي نظام الرقائق الإلكترونية، وهو نظام يهدف إلى مضاعفة حصة الاتحاد الأوروبي في سوق الرقائق الإلكترونية بحلول عام 2030، وهو ما يعني 3 أضعاف الإنتاج الحالي. واتفقت 13 دولة من الاتحاد بقيادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا على إنفاق ما مجموعه 43 مليار يورو على دعم صناعة الرقائق الإلكترونية خلال العقد الحالي. ويبلغ حجم السوق العالمية للرقائق الإلكترونية 533 مليار دولار، لا تزيد حصة الاتحاد الأوروبي فيه على 10 في المائة.
وتكمن أهمية الرقائق الإلكترونية للاتحاد الأوروبي في كونها عنصرا جوهريا في جميع الصناعات متوسطة وعالية التقنية. والاتحاد الأوروبي غني بمصانع السيارات والأجهزة الطبية والهواتف الذكية التي تعتمد جميعا على الرقائق الإلكترونية، وهو الآن يعتمد على الرقائق المصنعة خارج أوروبا وتحديدا من تايوان وكوريا الجنوبية في تغذية هذه المصانع، إلا أن الجائحة كشفت عن الضعف الأوروبي في سلاسل التوريد، وعرضت مصانعه لخسائر بالغة بسبب النقص في الرقائق والذي أبرز أهمية هذه الصناعة كعنصر رئيسي في صناعات متعددة. ودول الاتحاد تدرك إمكانية استخدام هذا الانكشاف كورقة ضغط سياسية واقتصادية عليها، وهي لا تنوي أن يستمر هذا الأمر في المستقبل، وهو ما ذكر في موقع مفوضية الاتحاد الأوروبي مؤخراً بأن دعم صناعة الرقائق الإلكترونية ليس مسألة منافسة مع الدول الأخرى، بل هو مسألة سيادة تقنية.
وفي الوقت الحالي يسيطر عدد محدود من الشركات في العالم على هذه الصناعة، أبرزها شركة TSMC التايوانية، وسامسونغ الكورية، وإنتل الأميركية. بينما لم يتجاوز حجم استثمار أوروبا في هذا القطاع 3 في المائة من حجم الاستثمار العالمي عام 2020. وتبرر مفوضة الاتحاد الأوروبي للمنافسة هذا التدخل بأن صناعة الرقائق حالة خاصة ولا يمكن لها النهوض دون دعم حكومي. وبالنظر إلى أهمية هذه الصناعة في استراتيجية أوروبا الصناعية، يمكن تبرير هذا التدخل الأوروبي، وإن كان متأخرا إلى حد ما.
وقد تبدو هذه المبادرة وكأنها نهضة لدول الاتحاد الأوروبي للحاق بأميركا والصين في الصناعات التقنية، إلا أن الأمر قد لا يعدو عن كونه مبادرة أوروبية طموحة وصعبة التحقيق كغيرها من المبادرات الأوروبية التي لم يكتب لها النجاح. وهذا النوع من المبادرات تكرر كثيرا في أوروبا خاصةً في قطاع التقنية، ولذلك عدة أمثلة. المثال الأول عام 2000 حين أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة رفع الإنفاق على البحث والتطوير في أوروبا للوصول إلى نسبة إنفاق 3 في المائة من الناتج القومي، ولم تنجح أي دولة أوروبية للوصول لهذا الهدف، وكان التبرير حينها الأزمة المالية. والمثال الثاني حين أعاد الاتحاد الأوروبي الكرة على نفس المبادرة للوصول إلى الهدف نفسه بحلول عام 2020، ولم تنجح إلا ألمانيا في الوصول إلى هذه النسبة عام 2017. أما المثال الأكثر قربا فهو إعلان الاتحاد الأوروبي عام 2013 عن رغبته في مضاعفة إنتاج الرقائق الإلكترونية بحلول عام 2020، والواضح من السياق الحالي فشل الوصول إلى هذا الهدف.
والاتحاد الأوروبي لا يبدو قادرا فعليا على المنافسة في هذا المجال، فلتايوان السيادة العالمية في مجال الرقائق الإلكترونية، والمنافسون الآخرون أكثر ضخاً للاستثمارات من الأوروبيين، فالصين استثمرت ولا تزال تستثمر نحو 150 مليار دولار في هذا المجال بين عامي 2015 و2025. وكوريا الجنوبية شكلت تحالفا مع عدد من الشركات لجمع نحو 450 مليار دولار لهذا القطاع. والولايات المتحدة أعلنت في بداية فترة الرئيس بايدن عن ضخ 52 مليار من الميزانية الفيدرالية على صناعة الرقائق الإلكترونية، هذه الميزانية منفصلة عن ميزانيات الولايات التي ستحاول إغراء المصانع بالاستثمار فيها وغير شاملة لاستثمارات الشركات نفسها مما يعني أن الرقم أعلى بكثير من 52 مليارا. أما الاتحاد الأوروبي فحصته من كامل مبلغ الدعم - 43 مليارا - لا تتعدى 11 مليار دولار، وبقية المبلغ سيأتي من الدول ومن القطاع الخاص، وهو ما يجعل هذا الرقم خجولا جدا بالنظر إلى تأخر أوروبا في هذا القطاع وأهميته الاستراتيجية له.
لا تبدو دول الاتحاد الأوروبي منافسة حقيقية لأميركا وآسيا في التقنية، وهي – مع إعلانها لهذه المبادرة - لا تملك حتى شريكا حقيقيا يمكنها من إنشاء مصنع بهذه الميزانية في أوروبا، وقد يصعب التوصل إلى اتفاق شراكة لا سيما مع الشرط الذي يفرض على المصانع التي ستنشأ أن تفضل العملاء الأوروبيين على غيرهم في حال النقص في الأسواق. فهل تستطيع أوروبا بهذا التحالف إعادة قصة إنشاء (إيرباص) التي نافست بها احتكار (بوينغ) الأميركية، بميزانياتها الحالية وشروطها المتعالية التي لا تتناسب مع وضعها الحالي؟
نقلا عن الشرق الأوسط