" الاحتكار و التضخم و العملات الرديئة هى أهم التحديات التى تصاحب زمن الأوبئة " هكذا و قبل سبعة قرون مضت قدم العالم المصرى " تقى الدين المقريزي" فى كتابة " إغاثة الأمة بكشف الغمة " توصيفا دقيقا لأهم الظواهر الاقتصادية السلبية التى طالت معيشة الناس فى عهد وباء الطاعون و ما قبله ، فكانت أمثلته محلية تاريخية و لكن باطروحة عالمية امتدت و كأنها تقرأ و تحلل العناوين الكبرى لما يعانيه الاقتصاد العالمي اليوم .
إذن انفراد المقريزي فى زمنه و المستند على علوم ما قبله من فلاسفة اليونان و كتابات ابن خلدون فى دراسة و تأريخ ما يحدث فى زمن الأوبئة كان انفرادا سابقا بقرون على تأسيس علم الاقتصاد ذاته على يد الشهير آدم سميث فى القرن الثامن عشر و بالطبع سابقا على النظام الرأسمالي المعاصر ، ليظل " الوباء " عاملا تاريخيا مشتركا و مهما بدوراته الزمنية الأساسية كل قرن و الفرعية منها كل 20 عام فى تنشيط التحديات الثلاثة السابق ذكرها .
هذا يدفعنا لطرح تسأولات كبيرة و مفتوحة و هى ...
اولا ... طالما الآثار الاقتصادية السلبية المصاحبة للأوبئة مرصودة و قديمة قدم البشر فلماذا يبدو العالم اليوم غبيا متفاجئا ، و يفشل بكل ما يملكه من تطور عظيم فى حسم المواجهة ؟! ... الإجابة البديهية لتغير معطيات الحاضر بشدة كما و كيفا ، و لكن فى المقابل أيضا لم يكن أهل الماضى يتمتعون نهائيا بما نحن عليه الآن فى كل شىء ... " يمكنك مقارنة الفوارق الهائلة من زاوية الكهرباء و الانترنت و الاعلام فقط "
ثانيا ... هل فيما يحدث مؤامرة كبرى من النخب الحاكمة على الجميع بإعادة انتاج الأزمات الاقتصادية و توزيع الثروات عبر تنويعات مختلفة على دورات زمنية محددة للأوبئة ؟! ... فمؤخرا انشغل الكونجرس الأمريكي بإعداد مشروعات قوانين تتوعد بقوة الأنشطة و الممارسات الاحتكارية للشركات العملاقة ذات القيم السوقية التى تبدأ من 550 مليار دولار فأكثر ، و هو ما يستهدف العشرة الكبار " ابل ، ميكروسوفت ، جوجل ، ارامكو ، امازون ، تسلا ، فيسبوك ، نفيديا ، بيركشير هاثاوى ، تايوان لأشباه الموصلات " و التى تزيد قيمتها السوقية مجتمعة عن 15.3 تريليون دولار .
ليعيد السؤال نفسه من زاوية أخرى ، هل مسعى الكونجرس هذا سيحارب احتكار الكبار فعلا و يغير من قائمة أثرى الأثرياء خلال 2022 ، أم يستعد لخلق و نمو كيانات احتكارية جديدة و لكن بقيم سوقية أقل من نصف تريليون دولار تمتلك العشرة الكبار حصصا مؤثرة فيها ؟!
ثالثا ... لماذا يقدم أهل المسؤولية للعالم تحذيرات ممسرحة و متضاربة رغم توقع حدوثها من قبل أصغر طلاب العلم ... ؟! ، فجائحة التضخم التى تلف العالم اليوم و ستخنقه على المدى القريب كانت "مؤقتة قبل محتور اوميكرون" على لسان جيروم باول رئيس الفيدرالى الأمريكى قبل أن يجود على مهل بتوصيف التضخم مستمر دون الإفصاح عن حلول شافية غير اللعب على وتيرة الفائدة ، رابطا الأمر بمتابعة تأثير حالة الوباء على أسواق العمل و معدلات النمو ...
بالاضافة لتوقعات متشائمة لعشرية من العوائد المنخفضة و ربما السلبية لأكبر صناديق العالم على لسان نيكولاى تانجين رئيس السيادى النرويجى بسبب الموجة التضخمية فى عهد كورونا ، فلن يجد أحدا مكان حول العالم يختبىء فيه من التضخم حسب قوله ! ... فإذا كانت هذة رؤى قادة أقوى البنوك المركزية و درة الصناديق ، فماذا سيطال التابعين الأقل قيمة و قدرا ، و إلى أى منسحق عميق ستنزلق الدول الناشئة حينها ؟!
رابعا ... هل يعانى العالم اليوم من خبل اقتصادى كبير ؟! ... الإجابة تتلخص فى حجم انفاق الحكومات الجنونى خلال العشرين شهرا الأخيرة لمواجهة الوباء ، بنحو 17 تريليون دولار و هو ما يعادل 16% من الناتج الإجمالي العالمى "أنهم ينتجون التضخم بأيديهم " !...
و بعين على الولايات المتحدة الأمريكية نرى أنها تحتكر أكثر من نصف تلك النفقات ، و 90% من قائمة العشرة الكبار الأكثر ثراءا حول العالم بختام 2021 و كل منهم لأول مرة فوق المائة مليار دولار بمجموع يتجاوز 1.3 تريليون دولار ، و كأنها تطبق نظرية " التقاطر لأسفل " التى تفصح عن ضرورة إثراء الأكثر ثراءا ليتقاطر ثرائه على من هم دونه ، و لكن الحقيقة القريبة تفصح عن أنه احتكار أمريكى بقوة الدولار المديون يتقاطر تضخما واسعا على العالم كله .
ختاما ... يقول المقريزي فى رسالته شذور العقود فى ذكر النقود ، أحد الفصول المهمة فى كتابه إغاثة الأمة " أن النقود المعتبرة عقلا و عملا هى الذهب و الفضة فقط و ما عداهما لا يصلح أن يكون نقدا " ... و المفارقة أن العملات الرديئة -حسب وصفه- قد ارتفعت 6.4% للدولار الامريكي و 60% للبتكوين المشفر ، بينما انخفضت أسعار الذهب 4.5% و الفضة 12% ... ليبدو أن تعافى العالم من الوباء الصحى الراهن أقرب كثيرا من تعافيه من جائحة الرأسمالية الجامحة .
ماتفضلت به يدعم وجهة النظر التي تقول بان العملات المشفرة هي الحل من عبث البنوك المركزية وضخها المفرط للسيولة .. ... شكرا جزيلا مقال جميل...