سباق النمو والتضخم والوظائف

05/01/2022 1
عبد الحميد العمري

هل يمكنك المقارنة بين أداء ثلاثة أشخاص خلال العامين الماضيين، الأول وضع أمواله في قطعة أرض شمال الرياض "ضخها بالكامل في مخطط الخير على سبيل المثال"، والثاني ضخها في سوق الأسهم "ضخها بالكامل في القطاع البنكي على سبيل المثال"، والثالث أسس بها مشروعا متوسط الحجم "ضخها بالكامل في نشاط التجزئة للأغذية على سبيل المثال"؟ وعلى افتراض أن رأسمال أولئك الأشخاص الثلاثة متساو يبلغ 1.0 مليون ريال.

قياسا على مؤشرات الأداء للمجالات الثلاثة أعلاه خلال الفترة من 2020 ـ 2021 فقد حقق المستثمر الأول في المتوسط عائدا لا يقل عن 217 في المائة، وارتفعت قيمة ثروته خلال عامين إلى نحو 3.2 مليون ريال. أما المستثمر الثاني فقد حقق في المتوسط عائدا يناهز 51 في المائة، وارتفعت ثروته خلال عامين إلى أعلى من 1.5 مليون ريال. أما المستثمر الثالث فقد حقق في المتوسط عائدا يناهز 38 في المائة، وارتفعت قيمة ثروته إلى نحو 1.38 مليون ريال.

إذا نظرت إلى التأثير الاقتصادي والتنموي للمستثمرين الثلاثة أعلاه في الاقتصاد وبيئة الأعمال والمجتمع، فستجد أن المستثمر الأول والأعلى عائدا في مجال نشاط شراء وبيع الأراضي فقط، قد حقق أعلى مكاسب مقابل تكاليف لا تكاد تذكر مقارنة بالمستثمر الثالث على سبيل المثال، ولم تسهم ثروته التي قفزت بتلك النسب الربحية القياسية بأي مساهمة تذكر على المستويات كافة، لا من حيث النمو الاقتصادي ولا تنويع الإنتاج ولا توظيف العمالة، بل يمكن القول إن مساهمته انحصرت فقط في زيادة تضخم أسعار الأراضي ومن ثم زيادة معدل التضخم عموما. أما المستثمر الثاني فقد انحصر استثماره في السوق المالية المحلية، وتحديدا في القطاع البنكي، وعلى أنه مساهمته في الاقتصاد ليست مباشرة، إلا أنها جاءت غير مباشرة من خلال الاستثمار في السوق المالية كعنوان رئيس لبيئة الاستثمار المحلية. أما المستثمر الثالث فقد تركزت مساهمته على الاستثمار المباشر في بيئة الأعمال المحلية، وأسهم وجود الكيان الذي أنشأه في إيجاد فرص عمل لغيره، وبالطبع سترتفع مساهمته تلك لو كانت في قطاعات إنتاجية أخرى يحتاج إليها الاقتصاد الوطني بصورة أكبر، إلا أن مساهمته بالتأكيد تعد أفضل من المستثمر الأول على سبيل الأول، خاصة على مستوى المساهمة في إيجاد مزيد من فرص العمل، إضافة إلى عدم تسببه في ارتفاع معدل التضخم.

إن ما تقدم ليس إلا صورة مصغرة جدا لصورة أكبر بكثير لعالم الاستثمار والاقتصاد، التي تشير إلى الأهمية القصوى لتنظيم تحرك الثروات والأموال والمدخرات في قنوات الاستثمار والاقتصاد الوطني، وأن يتم تهيئة البيئة المناسبة لها ليتم توظيفها في الاتجاهات التي تعزز وترسخ الاستقرار التنموي والاقتصادي قبل أي بعد آخر، وتقوم تلك البيئة التنظيمية بتوفير الممكنات اللازمة لتوظيف ثروات الاقتصاد الوطني وتسخيرها في خدمة متطلبات وتطلعات الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، بل تعمل على منع تحول أي منها نحو ما قد يؤدي إلى الإضرار أو تعطيل غيره من مجالات ونشاطات الاقتصاد، وهنا تحديدا يكمن المفتاح الذهبي للنمو المستدام للاقتصاد الوطني، وشمول أشكال التنمية المستدامة للجميع دون استثناء لأي طرف من الأطراف.

لقد قطع الاقتصاد الوطني على طريق التطوير والإصلاحات الاقتصادية خلال أقل من خمسة أعوام فقط، ما يمكن القول عنه إنه قد يفوق ما قطعته خطط التنمية طوال 50 عاما مضت، واستطاع في رحلته القصيرة تلك أن يتصدى بقدرة فائقة لعديد من الصدمات الاقتصادية العالمية، لعل آخرها ما نتج عن الجائحة العالمية لكوفيد - 19 من تداعيات مريرة على الاقتصادات والأسواق حول العالم، وهو ما يثبت بكل تأكيد أن القدرة على استكمال الإصلاحات في مجال ما تقدم ذكره حول تصحيح اتجاهات الثروات والأموال في بيئة الاستثمار المحلية، ممكن تحقيقه وخلال فترة وجيزة، وجهود الوفاء بتحققه على أرض الواقع لن تذكر أبدا أمام ما تم بذله من جهود، وما تم تسخيره من موارد عملاقة لأجل برامج التطوير والإصلاح خلال الخمسة أعوام الماضية.

كما لا بد من التأكيد أيضا أن النجاح في الوفاء بتلك الإصلاحات المنشودة على ذلك المستوى، من شأن تحققها أن يسهم بدرجة كبيرة جدا في الإسراع بترجمة كثير من مستهدفات بقية البرامج التنفيذية المرتبطة برؤية المملكة 2030، ويمنحها وغيرها من البرامج المستقبلية فرصا وقدرات أوسع وأكبر، يمكن لها أن تفتح مزيدا من الآفاق التنموية الأكثر ازدهارا وإشراقا، التي لم تكن ممكنة في الآجال المتوسطة والبعيدة، فتصبح ممكنة ومتاحة أمامنا، بعد زوال كثير من العوائق التي كانت تتغذى على مثل تلك التشوهات الاستثمارية من مضاربات وغيرها من الممارسات الضارة أكثر من نفعها.

ختاما: لا بد أن تتركز بصورة أكثر تركيزا جميع السياسات الاقتصادية الراهنة والمتوقعة مستقبلا، على دعم النمو المستدام والمتسارع للاقتصاد والتوظيف وتنويع قاعدة الإنتاج، وتعمل بكل ما يتوافر لديها من قدرات وموارد على تمهيد الطرق كافة، المؤدية إلى تلك المستهدفات المشروعة والمهمة جدا، والعمل أيضا على إزالة أي عوائق يمكن أن تقف في الطريق إليها، وهو الأمر الذي تحقق منه كثير - بحمد الله - طوال الخمسة أعوام الماضية، ولم يبق سوى هذا الجانب المحوري لينضم إلى ركب المنظومة النهضوية العملاقة من العمل المشترك بين الحكومة والقطاع الخاص، الذي يمكن تحقيقه بمزيد من التركيز واستكمال العمل عليه خلال أقل فترة زمنية ممكنة.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية