عملت السياسات الاقتصادية وكثير من البرامج التنفيذية لرؤية المملكة 2030 على تحفيز القطاعات الاقتصادية المنتجة، وارتفعت وتيرة الدعم والتحفيز بصورة أكبر خلال العامين الأخيرين بالتزامن مع تفشي الجائحة العالمية لكوفيد - 19، وهو ما بدا جليا في زيادة ضخ عشرات المليارات محليا، إضافة إلى الإجراءات الواسعة التي اتخذها البنك المركزي السعودي بتأجيل الدفعات المستحقة على تلك القطاعات، والتمديد المستمر لها من فترة إلى أخرى، إضافة إلى زيادة تسهيل حصول المنشآت المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر على التمويل اللازم، قفزت بها إلى أعلى من 200 مليار ريال بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، ومسجلة نموا مقارنة بمستوياتها قبل الجائحة بنحو 71 في المائة، وهو ما انعكس إيجابيا على نمو تلك القطاعات الاقتصادية للربع الثالث تواليا 6.3 في المائة بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، وانعكس أيضا على تراجع معدل البطالة إلى 11.3 في المائة، بالتزامن مع ارتفاع معدلات التوطين في تلك القطاعات بمعدل سنوي بلغ 3.8 في المائة، ووصوله إلى أعلى معدل تاريخي له عند 23.6 في المائة بنهاية الربع الثالث، ووفقا لتقديرات وزارة الموارد البشرية يتوقع أن يتجاوز عدد العمالة المواطنة في القطاع الخاص سقف 2.0 مليون عامل بنهاية العام الجاري، الذي يعد الأعلى لها تاريخيا.
ونظرا للتحديات المستمرة التي يواجهها الاقتصاد الوطني عموما خلال الأعوام المقبلة، والقطاعات المنتجة على وجه الخصوص، لا بد من استمرار عمل تلك السياسات والبرامج على النحو الذي يضيف مزيدا من التحفيزات والدعم اللازم والكافي لتلك القطاعات، كونها المصدر الأهم والرئيس للنمو الاقتصادي المستدام المنشود، ولأنها الحقول المنتجة من الاقتصاد الوطني الذي يوفر ويولد عشرات الآلاف من الوظائف سنويا أمام الموارد البشرية المواطنة، هذا عدا كونه لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030 بوصول مساهمته في الاقتصاد الوطني لأعلى من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي قبل نهاية 2030.
كل هذا يقتضي العمل أيضا على محاربة الأنشطة غير المنتجة، التي يأتي في مقدمتها التعاملات المضاربية في مختلف الأسواق والأنشطة، وهو ما يتسبب في إما انحسار قدرتها على التوسع والنمو، وإما في عدم ولادتها وبدئها أنشطتها الإنتاجية نظرا لعدم قدرتها على اجتذاب السيولة والاستثمارات اللازمة لانطلاقها، ولعدم قدرتها من حيث العوائد المتوقعة على منافسة العوائد القياسية التي تحققها التعاملات المضاربية، وهذا بالطبع لا يعني مجرد تراجع فرص الاقتصاد الوطني بولادة مثل تلك المشاريع الإنتاجية الرائدة والمهمة، بل يتجاوزه إلى ضعف نمو الفرص الوظيفية التي كان عشرات الآلاف من الموارد البشرية الوطنية في أمس الحاجة إليها.
إن من أوسع الأنشطة التي تتمتع بهذا القدر من التحديات المشار إلى أبرزها أعلاه، ما هو متمثل في المضاربات القائمة في السوق العقارية المحلية على الأراضي على اختلاف أنواعها ومواقعها ومساحاتها، الذي يقتضي بدوره المبادرة بوضع السياسات والتدابير الكفيلة بالحد من أحجامها التي تتجاوز سنويا عشرات المليارات من الريالات، وبما يؤدي إلى إعادة توجيه تلك الأموال والثروات نحو توظيفها في القنوات التي تخدم احتياجات الاقتصاد الوطني بصورة عامة، وبما يسهم في تحقيق كثير من المستهدفات التنموية التي حملتها على عاتقها رؤية المملكة 2030، وفي الوقت ذاته تسهم في الحد من الآثار العكسية التي تسببت ولا تزال تتسبب فيها تلك المضاربات على الأراضي في مختلف المدن والمحافظات، وقد يقتضي الأمر كما أثبتته الحاجة وواقع تعاملات السوق العقارية بوضعها الراهن، أن يتم اتخاذ تدابير إضافية تستهدف محاربة تلك المضاربات والتضييق عليها إلى الدرجة التي تقضي عليها، أو حتى تنحدر بها إلى أدنى مستوياتها، التي لا تشكل معه مصدرا يتوالد منه أي آثار عكسية تؤثر في النمو الاقتصادي المستدام، أو أي آثار تضخمية قد تؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج أو المعيشة، وهو الأمر الممكن تحقيقه بصورة ملموسة وخلال أقل من عام، ووفق منهجية صارمة ستظهر آثارها الإيجابية على بقية القطاعات الاقتصادية المنتجة وعلى المجتمع.
ويزداد هذا المشروع الاقتصادي أهمية إذا ما تم النظر إلى ما يجري العمل عليه خلال الفترة الراهنة من إصلاحات هيكلية واسعة وعميقة، إذ يشكل وجود واستدامة "المضاربات" كنافذة مشرعة الأبواب، وبما تتمتع به من سهولة اجتذابها للأموال والمدخرات، أحد أبرز التحديات التي قد تعيق تقدم وتحقق النتائج المنتظرة والطموحة للإصلاحات والتطوير القائم العمل عليها، كون هذه النافذة لهروب الأموال والمدخرات من أي متطلبات ومسؤوليات تجاه الاقتصاد والمجتمع، متاحة ومشروعة في الوقت ذاته، وهو الأمر الذي تتأكد وفقا له أن الآثار العكسية وفقا لما تقدم ذكره أعلاه، تستحق أكبر قدر من السياسات والتدابير اللازمة للحد من تلك الممارسات المضاربية، والمبادرة بالعمل المتكامل والمشترك فيما بين الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص على حماية مقدرات الاقتصاد الوطني من أي مخاطر محتملة لها. والله ولي التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية