هل يغنينا صندوق الاستثمارات العامة عن البترول؟

19/12/2021 1
د. فهد الحويماني

الصناديق السيادية هي صناديق ثروة تمتلكها الدول التي تعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية والسلع الأولية كالنفط والمعادن، أو تلك الدول التي تعتمد على خدمات محدودة، مثل السياحة أو العمالة، بحيث يتم استخدام عائدات هذه الصناديق في تحقيق مصادر دخل مكملة ورافدة للميزانيات الحكومية السنوية. المملكة هي إحدى تلك الدول التي تعتمد على إيرادات النفط في ميزانيتها السنوية، بدأت في الانخفاض في الأعوام القليلة الماضية لتصل إلى حدود 60 في المائة حاليا، وبالتالي هناك حاجة ماسة إلى تنويع مصادر الدخل الحكومية لتغطية أي تقلبات حادة في إيرادات النفط السنوية.

الجواب المباشر لعنوان المقالة هو أن الصندوق لن يغني عن إيرادات النفط، وهذا ليس من أهدافه، بل ليس من أهدافه دعم الميزانية الحكومية قبل 2030، ولكن بالإمكان تحقيق مصادر دخل عالية في الأعوام المقبلة تتجاوز إيرادات النفط، فتصبح إيرادات النفط مكملة للميزانية السنوية، لا أن تكون أساسا لها. كيف يمكن أن يتم ذلك؟

وصلت أصول الصناديق السيادية حول العالم إلى 8.5 تريليون دولار بنهاية 2020، وبحسب أحد أكبر المواقع المتخصصة في رصد نشاطات الصناديق السيادية فقيمة أصول جميع الصناديق تقدر حاليا بنحو 9.4 تريليون دولار. وبالنظر إلى تجربة النرويج التي لديها صندوقان، الأول صندوق خاص بمعاشات التقاعد وهو يستثمر داخل النرويج في شراء الأسهم النرويجية وغيرها من الشركات، والصندوق الآخر المشهور هو أكبر صندوق سيادي في العالم تقدر قيمة أصوله حاليا بحدود 1.3 تريليون دولار. قيمة أصول هذا الصندوق أعلى من قيمة أصول الصندوق الصيني بنحو 120 مليار دولار، وهذان الصندوقان أكبر بكثير من ثالث صندوق وهو الصندوق الكويتي بنحو 700 مليار دولار، والذي يليه في الترتيب صندوق أبوظبي بنحو 650 مليار دولار، ومن ثم يأتي صندوق الاستثمارات العامة بقيمة 480 مليار دولار.

وعلى الرغم من كون صندوق الاستثمارات العامة أصغر حجما من هذه الصناديق الكبيرة إلا أن الصندوق بدأ يتحرك في الأعوام القليلة الماضية، فارتفعت أصوله من حدود 140 مليار دولار فيما قبل 2015 إلى 480 مليار دولار الآن، والمستهدف أن تصل قيمة أصوله إلى 1.07 تريليون دولار في 2025، بحسب خطة الصندوق للأعوام المقبلة، ومن ثم إلى 2.7 تريليون دولار في 2030 بحسب تصريحات ولي العهد.

إذا كانت الإيرادات النفطية السنوية للمملكة بحدود 500 مليار ريال، فإن أصول صندوق الاستثمارات العامة والمتوقع أن تصل إلى أربعة تريليونات ريال في 2025 من الممكن أن تدر عائدا سنويا بحدود 10 في المائة، أي نحو 400 مليار ريال، وذلك قريب جدا لما هو متحقق من الإيرادات النفطية. أما في حال وصلت أصول الصندوق إلى عشرة تريليونات ريال في 2030، بحسب رؤية ولي العهد، ومع القدرة على تحقيق متوسط عائد سنوي بحدود 10 في المائة، فنحن نتكلم عن عوائد بمقدار تريليون ريال سنويا، وهذا يغطي بشكل كامل مصروفات الميزانية السنوية بحجمها الحالي.

السؤال بالطبع هو هل يمكن رفع أصول الصندوق إلى هذا الحجم وتحقيق هذه العوائد؟ وكيف يمكن أن يتم ذلك؟

أولا بخصوص العائد السنوي فلدينا أمثلة لصناديق حققت بالفعل عوائد تجاوزت 10 في المائة، ومنها الصندوق النرويجي الذي حقق 10.9 في المائة في 2020 وحقق 19.9 في المائة في 2019، ومتوسط عائده للأعوام العشرة الماضية 8 في المائة، وهناك غيره صناديق سيادية حققت عائدات أقل وأكثر من ذلك. الصندوق النرويجي يستثمر في نحو 73 دولة ويمتلك أسهما في أكثر من تسعة آلاف شركة، والتقديرات أنه يمتلك 1.4 في المائة من أسهم الشركات المدرجة عالميا، وأنه لو تم توزيع قيمة أصوله على شعب النرويج فستكون حصة كل شخص نحو مليون ريال!

من المهم الإشارة إلى أن الصناديق السيادية تختلف في درجات العائد المطلوب وبالتالي أنواع الأصول ودرجات المخاطرة المرتبطة بها، فهناك صناديق هدفها الحفاظ على رأس المال، وبذلك فهي تسعى إلى تحقيق عوائد سنوية لا تتجاوز 1 إلى 3 في المائة، منها على سبيل المثال، الصندوق الياباني الذي يصل متوسط العائد السنوي لديه 3 في المائة طيلة الـ20 عاما الماضية. وهناك صناديق تهدف إلى دعم الاقتصاد من خلال تأسيس شركات البنى التحتية ودعم الشركات المحلية، وهناك صناديق هدفها تعظيم الثروة للأجيال القادمة، ولكل نوع من هذه الصناديق سياسات مختلفة لإدارته ولما يمكن تحقيقه من عوائد.

ما يقوم به صندوق الاستثمارات العامة من سياسات واستراتيجيات لتعظيم أصوله أمر مهم للغاية، وقد جاء هذا النهج الجديد في وقته في ظل توقعات بانخفاض إيرادات النفط في الأعوام المقبلة، وبعد أعوام من الاستثمارات المتحفظة جدا. أحد أبرز أسباب هذه الشهية الجديدة للصندوق يعود إلى التغير الإداري في الصندوق، بدءا بفك الارتباط الإداري عن وزارة المالية وربطه بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ومن ثم إيجاد نموذج حوكمة تشغيلي يعكس مهام الصندوق وأهدافه وفقا لأفضل الممارسات العالمية، مع اتباع مستويات عالية من الشفافية والإفصاح فيما يخص نشاطات الصندوق وعائداته.

الصندوق لديه استثمارات داخلية وخارجية، والاستثمارات العالمية بالنسبة إلى الصندوق هي الاستثمارات خارج المملكة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد نجح الصندوق في تكوين علاقات واسعة مع مختلف المستثمرين العالميين ومديري الأصول والبنوك الاستثمارية وشركات الوساطة العالمية، بحيث أصبح الصندوق الآن مثار الاهتمام والمتابعة من قبل كثير من المهتمين حول العالم.

سياسة الصندوق ليست فقط في تحقيق عوائد مباشرة بل كذلك في بناء كيانات ضخمة تكون قادرة على إيجاد مزيد من الفرص الاستثمارية بالاستناد إلى بناها التحتية وخدماتها اللوجستية والتمكينية، وتتميز هذه السياسة بالنظرة بعيدة الأمد بحيث يتم الصرف الآن على بنى تحتية وتجهيزات ووسائل تمكينية عديدة ومنها يتم استخراج منشآت جديدة، بل إن قطاعات كاملة من الممكن أن تنتج عن هذه المشاريع العملاقة.

لدى الصندوق استثمارات عالمية منتقاة، بحسب ما يتم الإجماع عليه من خلال نظام الحوكمة الداخلي، منها الاستثمار في مجموعة أكور للفنادق، التي لديها 850 فندقا ومنتجعا في 26 دولة، ومنها شركة بابيلون التي لديها تقنيات ذكاء اصطناعي تختص برفع أداء القطاع الصحي من خلال تطبيقات خاصة بالمرضى وبرامج خاصة بالمستشفيات وعيادات الأطباء. كما أن هناك استثمارات في شركتين هنديتين هما جيو الهندية للاتصالات وريلاينس للتجزئة، التي هي عبارة عن سوق إلكترونية وصلت مبيعاتها إلى 22 مليار دولار في 2021، وهي شبيهة بكل من شركتي أمازون و”نون”، التي هي الأخرى مملوكة للصندوق كبيرة.

هذه الاستثمارات المنتقاة تأتي إلى جانب استثمارات عالمية أخرى كبيرة مع سوفت بنك الياباني ومجموعة بلاك ستون الاستثمارية، إلى جانب استثمارات مبكرة في شركات واعدة، مثل شركة لوسيد للسيارات الكهربائية، التي تعد منافسا قويا لشركة تسلا للسيارات، والاستثمار في شركة أوبر، وشركة ماجيك ليب، إضافة إلى برامج استثمارية مستقلة في كل من البرازيل وفرنسا.

أما على مستوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فهناك استثمارات في شركة دور للضيافة وفي شركة مختصة بتهيئة الطائرات وصيانتها، وفي المختبر الخليجي لفحص الأجهزة الكهربائية، واستثمارات أخرى مثل جسارة لإدارة المشاريع وشركة مرافق الكهرباء والمياه التي لديها مشاريع بنى تحتية كبيرة في الصرف الصحي وتوليد الطاقة في عدد من المشاريع حول المملكة، وشركات سعودية عديدة تعمل في مجالات متعددة ولديها نشاطات متنوعة في المنطقة بشكل عام، إلى جانب ملكية الصندوق المباشرة في بنك الخليج الدولي وشركة أمريكانا للأغذية وشركة بحري وابن رشد والبنك العربي الأردني والشركة السعودية للاستثمار الزراعي وشركة مختصة بالصناعات العسكرية.

من الممكن أن تشكل عوائد صندوق الاستثمارات العامة في الأعوام المقبلة جزءا كبيرا من الثروة السيادية للمملكة ورافدا مهما للميزانية السنوية، وهناك بوادر أولية مشجعة بدأنا نلمسها في تنامي أصول الصندوق وحسن اختياراته.

 

 

نقلا عن الاقتصادية