أرقام الموازنة الجديدة للعام المالي القادم 2022، بما في ذلك النتائج الفعلية المتوقعة للميزانية العامة للدولة للعام المالي الحالي 2021 تؤكد بما لا يقبل الشك على أن الاقتصاد السعودي بدأ يتعافى من تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19)، والتي تُعد أسوأ جائحة ووباء شهدها العصر الحديث منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939 والأنفلونزا الإسبانية التي حلت بالعالم في عام 1918 وتسببت في مقتل 50 مليون إنسان.
رغم ضراوة جائحة فيروس كورونا وما تسببت فيه من أضرار صحية واقتصادية يصعب تقديرها في الوقت الحاضر نظراً لاستمرار تداعياتها وظهور تحوراتها المختلفة، إلا أن الاقتصاد السعودي والمالية العامة للدولة تعاملت مع تلك التداعيات بحصافة وحكمة غير مسبوقة على مستوى العالم، حيث قد أشادت منظمات أممية مثل منظمة الصحة العالمية بالمستوى الرفيع عالي المسؤولية للمملكة في تعاملها مع الجائحة، سواء كان ذلك فيما يتعلق بتوفير اللقاحات للمواطنين والمقيمين بما في ذلك لمخالفي نظامي العمل والإقامة بالمجان، أو فيما يتعلق باتخاذ التدابير الصحية والوقائية التي تَحد من انتشار الوباء.
كما أن استمرار الحكومة السعودية في مواصلة جهودها النيرة الرامية إلى تنفيذ الإصلاحات الداعمة لتطوير إدارة المالية العامة بما يحقق الانضباط المالي وتعزيز كفاءة الإنفاق، بالإضافة إلى استمرارها في مراجعة برامج الحماية الاجتماعية وتحسينها، قد مكنها من الاستمرار في الإنفاق على الخدمات العامة التي تمس حياة المواطن بشكلٍ أساسي ومباشر، كالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية وغيرها بسخاء، وما يؤكد على ذلك استحواذ الإنفاق على تلك الخدمات، بما في ذلك خدمات البلديات على نصيب الأسد من إنفاق الموازنة للعام المالي القادم بنسبة تزيد على 41 % من إجمالي الإنفاق الكلي المقدر بمبلغ 955 مليار ريال.
وعلى الرغم من الإنفاق التوسعي للموازنة للعام المالي القادم، إلا أن الحكومة لا تزال مستمرة في نهجها الإصلاحي للمالية العامة للدولة وكذلك في تنويع قاعدة الاقتصاد، بعيداً عن تأثير تقلبات أسعار النفط العالمية، مما سيحقق للمالية العامة للدولة الاستدامة على المدى المتوسط والطويل، بما في ذلك السيطرة على معدلات العجز خلال السنوات الماضية وتقليصه بشكل تدريجي من مستويات بلغت 12.8 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 و2.7 % في العام 2021م وصولا لتحقيق فوائض مالية بنحو 2.5 % ابتداء من العام 2022.
لعله من اللافت للانتباه في الموازنة الجديدة تحقيقها لفائض مالي متوقع يقدر بنحو 90 مليار ريال، وهذا الفائض يَعود بنا بالتاريخ وبالذاكرة إلى الفائض الذي حققته الميزانية العامة للدولة في عام 1434 / 1435 بمبلغ 206 مليارات ريال، الأمر الذي بدوره سيعزز من حجم الاحتياطيــات الحكوميــة ويوفر دعماً مالياً قوياً للصناديــق التنمويــة المختلفة لصالح المواطن والتنمية، هذا بالإضافة إلى أنه سيُمكن الدولة من النظر فــي إمكانيــة التعجيــل فــي تنفيــذ بعـض البرامـج والمشـاريع الاسـتراتيجية ذات البعـد الاقتصـادي والاجتماعـي، وسـداد جـزء مـن الديـن العـام حسـب ظـروف السـوق، والذي بدوره سيعزز من القدرة المالية للمملكة في التعامل مـع الأزمـات مـن خـلال تقويـة المركـز المالـي للدولـة، والتركيـز علـى الاسـتثمار الـذي يحقـق النمـو الاقتصـادي المسـتدام بمـا يضمـن المحافظـة علـى اسـتدامة واسـتقرار المركـز المالـي للدولـة.
دون أدنى شك إن الموازنة الجديدة للمملكة وما ستحققه من فوائض مالية، تؤكد على قدرة الحكومة الفائقة في التعامل مع أزمة فيروس كورونا، حيث قد أثبتت للعالم بأسره أنها من بين الدول الأوائل على مستوى العالم التي تعافت اقتصادياً إن لم تكن الأولى وبالذات من بين دول مجموعة دول العشرين والتي هي عضو ومؤسس بها منذ عام 1990، وليس ذلك فحسب، بل إنها قد تَمكنت من محاصرة الجائحة والحد من انتشارها من خلال تجنيد كافة الامكانات الصحية من كوادر وطواقم طبية ولوازم اللقاح وغيرها للقاطنين على أرضها المباركة وتخصيص مبلغ 47 مليار ريال لمكافحة الجائحة.
إن تعزيز قوة المركز المالي للمملكة سيمكنها - بإذن الله - من مواجهة أي صدمات مالية مستقبلا - لا سمح الله - قد تَحل بالعالم، وبالذات التي قد تتسبب في تذبذبات في أسواق النفط العالمية، سيما وأن تركيز المملكة خلال الفترة القادمة سيكون على تحقيق العوائد المالية والاقتصادية طويلة المدى، وأيضاً سوف تستمر في انتهاج تخطيط مالي سليم يؤدي إلي استقرار مستويات الإنفاق بوتيرة منتظمة تُمكن المالية العامة من تجاوز أي صدمات قد تحدث مستقبلا دون الحاجة إلى تغيير سياسات الإنفاق، كونها استغلت الفوائض في استثمارات ذات عائد تكفي لتغطية أي احتياجات تمويلية مستقبلية.
نقلا عن الرياض