لعل أكثر ما يشغل الحكومات عموماً والبنوك المركزية في العالم خصوصاً هو تسارع ارتفاع معدلات التضخم بعد أن عاد النمو للاقتصاد العالمي بسبب حزم التحفيز الضخمة التي أقرتها الدول وعلى رأسها مجموعة العشرين التي خصصت 11 تريليون دولار لاحتوء تداعيات جائحة كورونا على اقتصادياتها بالإضافة لخفض أسعار الفائدة لما يقارب الصفر بهدف وقف نزيف الاقتصاد العالمي ومن ثم معاودة تحقيق النمو إلا أن تسارع نمو الطلب على السلع والخدمات قابله نقص بالمعروض بسبب عدم عودة الإنتاج العالمي لما قبل جائحة كورونا وقد ظهرت الكثير من التداعيات السلبية بنقص المعروض وكذلك تكدس الحاويات بالموانئ نتيجة عدم العودة للنشاط بالخدمات كما كان سابقاً مما أدى أيضا لارتفاع ضخم بأجور الشحن البحري وهو ما أسهم أيضا في رفع أسعار السلع والمنتجات عموما.
ويضاف عامل جديد لما سبق ذكره وهو أزمة إمدادات الطاقة تحديداً الغاز بعد عدة أحداث كالأعاصير في أمريكا التي أثرت بمواقع تنتج وتصدر الغاز مما أدى لارتفاع تكلفة إنتاج بعض المواد كالأسمدة وهذا ما أدى لإقفال بعض المصانع بأوروبا لخطوط إنتاجها لأنها ستحقق خسائر مؤكدة بسبب ارتفاع أسعار الغاز إضافة لمشكلات تواجه القدرة على إنتاج الكهرباء بأوروبا والصين لأسباب متفرقة لكن لضعف سلاسل الإمداد دور رئيس فيها مما أدى للتحول لاستخدام النفط حيث ارتفع الطلب اليومي عليه بنحو 500 ألف برميل وارتفعت الأسعار لما فوق 80 دولاراً وسط احتمال بأن تطول أزمة الطاقة العالمية بسبب نقص إمدادات الغاز والتسرع الكبير من أوروبا نحو الطاقة المتجددة بحسب وصف الكثير من بيوت المال العالمية دون النظر للعوامل التي قد تقلل إنتاج الطاقة المتجددة كالعوامل المناخية وابتعادهم عن الوقود الأحفوري بنسب مبالغ فيها واضطروا مع أزمة إنتاج الكهرباء للعودة للغاز لاستخدامه في إنتاجها بنسب أعلى من القائم حالياً ولكن جاء نقص الإمداد منه ليشكل ضربة إضافية أثرت بنهاية المطاف على إنتاج السلع عالمياً ليس في أوروبا فقط أحد أكبر التكتلات الاقتصادية بأكثر من 19 تريليون دولار ولكن أيضا بالصين التي نما استهلاك الكهرباء فيها 16 في المائة هذا العام مقابل نمو في إنتاج الفحم الحجري بنسبة 6 في المائة وهو الذي يعتمد عليه بنسبة 70 في المائة في إنتاج الكهرباء بالصين مما أدى لتعطل حركة الإنتاج الصناعي بسبب الانقطاعات على المصانع وبدأت التوقعات تميل لتقليل نسبة النمو بالاقتصاد الصيني عن التوقعات السابقة.
إن كل هذه المعطيات مع تفاصيل صافية في نقص الإنتاج الزراعي وكذلك الصناعي وأيضا بالرقائق الإلكترونية التي خفضت إنتاج السيارات في العالم بنسبة تفوق 20 في المائة وتسارع الطلب على المعادن من جهة ووصول أسعارها لقمم تاريخية أدى لرفع التضخم وأيضا لنقص في سلاسل الإمداد وفتح الأعين لدى دول عديدة على ضرورة رفع مساهمة الصناعة فيها وفي المملكة أطلقت عدة استراتيجيات تصب في صالح النهوض بالصناعة المحلية وزيادة المحتوى المحلي فعدد المصانع المرخصة يقارب 10 آلاف مصنع باستثمارات تزيد عن تريليون ريال لكن بالمقابل ما زال حجم الواردات ضخم ويقارب بالمتوسط 500 مليار ريال أي حوالي 24 في المائة من الناتج الاجمالي المحلي ويمثل النقل من سيارات ومعدات والمواد الغذائية والأجهزة الكهربائية والتكنولوجية جل الواردات وهو ما يتطلب تكثيفا لاستقطاب الاستثمارات من خلال استراتيجية تمثل «الحزام الصناعي» بتوفير جل السلع الأساسية من الإنتاج المحلي سواء بالمواد الغذائية أو بعض الأجهزة والمعدات وقطع الغيار فالعالم اليوم لم يعد كما كان قبل جائحة كورونا وتحقيق الأمن الاقتصادي بكافة أبعاده أصبح جله يعتمد على الإنتاج المحلي وليس فقط عبر التجارة الدولية أو الشراكات بالاستثمار في دول ذات عمالة كثيفة ورخيصة الأجر.
بكل تأكيد ليس من السهل بناء قاعدة صناعية ضخمة تلبي الطلب المحلي بجل احتياجاته لكن الواقع العالمي فرض نفسه بما نشاهده من نقص بالإنتاج وارتفاع بالأسعار وهو ما يعني بالضرورة أن تأخذ دراسات الجدوى الاقتصادية بعين الاعتبار أبعاد توفير سلاسل الإمداد محلياً ومن الضروري التوجه بتسارع أكبر نحو استخدام التقنية والذكاء الاصطناعي بعملية الإنتاج ودعم هذه التحولات بتوجيه جزء كبير من إقراض الصناديق التنموية والبنوك التجارية نحو هذا التغيير بأساليب وآليات الإنتاج حتى يرتفع الإنتاج محلياً ويتم توفير مئات الآلاف من فرص العمل خصوصاً بعد إطلاق برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يركز على توجيه التركيز على التخصصات التي يتطلبها سوق العمل.
نقلا عن جريدة الجزيرة