دخل الاقتصاد العالمي من بعد تفشي الجائحة العالمية لكوفيد - 19 مضمار سباق محموم بين حصانين، الأول تمثل في الديون والآخر تمثل في التضخم، وما زالا حتى تاريخه تتسارع خطواتهما دون توقف أو تهدئة من أي منهما، ووفقا لأحدث إحصاءات الديون العالمية التي نشرتها صحيفة «الاقتصادية» أخيرا، وصل حجم ما تم ضخه منها من قبل البنوك المركزية والحكومات في الأسواق منذ آذار (مارس) 2020 إلى نحو 27 تريليون دولار، أي ما يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي! ووصل الحجم الإجمالي لديون العالم "الحكومات، الشركات، الأسر" بنهاية الربع الثاني من العام الجاري إلى 296 تريليون دولار، وتوزع ذلك الجبل الشاهق من الديون العالمية بين 86.1 تريليون دولار على شركات غير مالية "29.1 في المائة من الإجمالي"، ونحو 85.8 تريليون دولار على الحكومات "29.0 في المائة من الإجمالي"، ونحو 68.7 تريليون دولار على القطاعات المالية "23.2 في المائة من الإجمالي"، وأخيرا على كاهل الأسر بنحو 55.4 تريليون دولار "18.7 في المائة من الإجمالي".
وبالنسبة للتضخم، فقد أظهر أحدث بيانات صندوق النقد الدولي بنهاية آب (أغسطس) الماضي، ارتفاع مؤشر أسعار السلع الأساسية بنسبة 50.5 في المائة، وارتفاعه باستثناء الذهب للفترة نفسها بنسبة 60.9 في المائة، فيما سجل مؤشر أسعار الغذاء بنسبة 33.9 في المائة، وجاءت تلك التطورات اللافتة بالتزامن مع خفض البنوك المركزية معدلات الفائدة إلى مستويات مقاربة للصفر، بهدف دعم النمو الاقتصادي وتنشيط نشاطات الاقتصاد الحقيقي، ولمساعدة منشآت القطاع الخاص على استعادة وتيرة النمو مجددا بعد الصدمة القوية التي أحدثها كوفيد - 19 للاقتصادات والأسواق، والعمل مجددا على استعادة عشرات الملايين من الوظائف التي فقدت نتيجة تلك الصدمة، ولا تزال السياسات التحفيزية عاملة حتى تاريخه، على الرغم من كل تلك الانعكاسات المرتبطة بارتفاع حجم الديون ومستويات التضخم، إضافة إلى ما أظهرته تقديرات صندوق النقد الدولي والبنوك المركزية حول العالم من تغيير نظرتها تجاه معدلات النمو الاقتصادي والبطالة، بخفض توقعات النمو، وارتفاع معدل البطالة، وهو ما أشار إليه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أخيرا، حينما قام بتعديل مستهدفاته للمؤشرات الاقتصادية في 2021 مقارنة بتوقعاته في حزيران (يونيو) الماضي، بخفض توقعه لنمو الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي من 7.0 في المائة إلى 5.9 في المائة، ورفعه لمعدل البطالة من 4.5 في المائة إلى 4.8 في المائة، وأخيرا رفعه لتوقعه تجاه معدل التضخم من 3.4 في المائة إلى 4.2 في المائة، وتأكيده الإبقاء على سياسته النقدية دون تغيير عند معدلات فائدة بين صفر و0.25 في المائة، والاستمرار في برنامج شراء السندات الشهرية بما لا يقل عن 120 مليار دولار، مع إشارته إلى أن التخفيف في المشتريات قد يكون قريبا، وأن رفعه معدلات الفائدة ربما قد يكون في وقت أقرب من المتوقع.
في ظل الأوضاع السائدة "معدلات فائدة متدنية جدا، ضخ المزيد من القروض في الأسواق"، فإن الاحتمال الأقرب للحدوث وفقا لهذين المتغيرين الرئيسين، أن التضخم سيستمر في الصعود، وكذلك الأمر بالنسبة للديون العالمية، ولكن إلى أي مدى أو حد سيكون ذلك؟ وهذا هو السؤال الذي يخضع للبحث والدراسة من قبل البنوك المركزية والمراقبين والمختصين، وهو ما لخصه د. إم. مالتس؛ أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة أدنبره، بقوله: "إن العالم يواجه ما يمكن وصفه بفخ السيولة، وخطورة هذا الوضع أنه على الرغم من توافر الأموال بشكل كبير ومفرط فإن تأثيرها يكون محدودا"، وهو أيضا ما سبق للمفكر الاقتصادي نورييل روبيني؛ في مقاله الأخير "أزمة ديون الركود التضخمي الوشيكة": "إن السياسات النقدية والمالية المفرطة التساهل اليوم، قد تـفضي إلى ركود تضخمي (تضخم مرتفع مصحوب بركود) على طريقة سبعينيات القرن الـ20، عندما تقترن بعدد من صدمات العرض السلبية، الواقع أن الخطر اليوم أكبر حتى مما كان عليه في ذلك الحين".
الأمر الآخر خارج سياق السياسات النقدية الراهنة، ما الذي يتوقع حدوثه للاقتصادات والأسواق بحال بدأت البنوك المركزية بالصعود من مواقعها التحفيزية الراهنة؟ وهو الأمر المؤكد حدوثه في أي وقت من نهاية العام الجاري حتى منتصف العام المقبل إلى نهايته على أبعد حد. وهو الأمر المؤكد أنه قد يصدم الأسواق قبل الاقتصادات، كما أنه الأمر الذي مهما حمل من تصحيح قد يميل إلى القسوة إلى حد بعيد على الأسواق، يظل أقل ألما عليها مما لو شهدت الأسواق تصحيحا قد يكون أقسى تحت مظلة السياسات التحفيزية الراهنة للبنوك المركزية، وهو ما ألمح إليه أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة أدنبره أعلاه، أن يتضاءل تأثير الأموال رغم وفرتها غير المسبوقة تاريخيا على الأسواق إلى أدنى مستوى، وانتهاء جميع الخيارات المتاحة أمام البنوك المركزية لأجل دعم الأسواق! وهو ما أكده المفكر الاقتصادي نورييل روبيني؛ في نهاية مقاله "أزمة ديون الركود التضخمي الوشيكة": "إن استمرار السياسات النقدية والمالية المتساهلة قد يؤدي إلى جعل توقعات التضخم هائمة بلا مـرسى، ومن شأن دوامة الأجور والأسعار الناجمة عن ذلك أن تفضي إلى بيئة خصبة للركود التضخمي في الأمد المتوسط أسوأ من تلك التي شهدناها في سبعينيات القرن الـ20 عندما كانت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل مما هي عليه الآن".
ختاما، قد تجد الحكومات ممثلة في بنوكها المركزية نفسها أمام خيار وحيد لاستعادة وتيرة النمو الاقتصادي، وتحسين معدلات البطالة مجددا، وأنه لن يكون إلا من خلال بوابة حدوث تصحيح قاس للأسعار المتضخمة لمختلف الأصول في الأسواق، والتنازل عن وجود منشآت مالية وتجارية وصناعية أثقلتها الديون الهائلة، وكأنما نتحدث عن عدد واسع من أشباه "ليمان براذرز"؛ الذي كان محل الشرارة الأولى للأزمة المالية العالمية 2008، وقد بدأ العالم يشاهد عينة من تلك المنشآت إيفرجراند؛ أكبر مطور عقاري في الاقتصاد الصيني، والأمر كما يبدو حتى الآن ليس إلا في بداياته لما هو مقبل على الاقتصادات والأسواق حول العالم، بعد أن شهد العالم واحدة من أكثر الفترات الزمنية ارتفاعا في حجم الديون والتضخم على حد سواء، وما سيتطلبه كل ذلك من مزيد من تأهب البنوك المركزية أكثر مما سبق، وما سيحمله كل ذلك من مفاجآت لم تكن في الحسبان للأطراف كافة، ليس أمام الأغلبية من سكان العالم أكثر من مراقبة الأشهر المقبلة أو حتى عام إلى عامين مقبلين بحد أقصى، وانتظار ما ستسفر عنه هذه التطورات الراهنة وفي المستقبل القريب!
نقلا عن الاقتصادية