بالنظر إلى متوسط النمو الاقتصادي خلال العقد الزمني الماضي 2011 - 2020 الذي لم يتجاوز معدله الحقيقي 2.5 في المائة، وإلى متوسط النمو الحقيقي للقطاع الخاص خلال الفترة نفسها البالغ 3.4 في المائة، واقترانهما بمعدل نمو للعمالة المواطنة في القطاع الخاص للفترة نفسها وصل إلى 9.9 في المائة، سنجد أن كل ذلك لم يكن كافيا لإحداث النقلة التنموية اللازم تحققها، للوصول إلى المستهدفات الكفيلة برفع نسب التنويع الإنتاجي إلى أعلى من 11.5 في المائة للفترة نفسها، ولا إلى خفض معدل البطالة نتيجة لمحدودية ارتفاع متوسط معدل التوطين للفترة نفسها إلى 16.9 في المائة، مقارنة بمعدله خلال العقد الأسبق (2001 - 2010) البالغ 12.2 في المائة.
وقس على ذلك متوسط معدلات النمو الحقيقي لنشاطي الصناعة والخدمات عن الفترة نفسها، حيث لم يتجاوز متوسط النمو الحقيقي للنشاط الصناعي للفترة نفسها معدل 2.0 في المائة، ولنشاط الخدمات 3.5 في المائة. في المقابل، تظهر معدلات النمو المتحققة لأسعار الأراضي داخل المدن والمحافظات للفترة نفسها وتيرة مطردة، لا يمكن مقارنة معدلات نموها السنوية باستثناء فترة 2015 - 2018 بتلك التي تحققت للقطاعات الإنتاجية للاقتصاد الوطني، وهي القطاعات التي تحتل مكانتها الرئيسة في صلب السياسات والبرامج التنموية، التي تستهدف تعزيز النمو الاقتصادي المستدام، وتمثل جوهر الحراك التنموي اللازم لتنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، وما يحمله كل ذلك من أهمية قصوى لنمو الوظائف اللازمة لاستيعاب الموارد البشرية المواطنة، وتحسن مستويات الدخل بالنسبة لأفراد وأسر المجتمع، التي ستسهم بدورها في تحسن مستويات الادخار والاستهلاك المحلي، وهي المستهدفات التي لا يمكن للزخم المتصاعد بتدوير وتخزين الأموال والثروات في مجرد أراض دون أي انتفاع منها أو استخدام، أن تقوم بأي شيء منه، لا على مستوى النمو الاقتصادي، ولا مستوى زيادة فرص العمل الملائمة.
بل تثبت التجارب التي سبق المرور بها طوال العقود الماضية عكس ذلك كله، فمع كل تضخم في أسعار الأراضي داخل المدن الرئيسة تحديدا، وما يليه من ارتفاع في تكاليف المنتجات العقارية على اختلاف أنواعها شراء أو إيجارا، وجدت مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني وشرائح المجتمع على حد سواء، ارتفاعا في تحدياتها سواء من حيث تكاليف التشغيل والإنتاج بالنسبة للقطاعات المنتجة، أو من حيث تكاليف المعيشة بالنسبة للشرائح الاستهلاكية من المجتمع. ولأجل هذا تم إقرار عديد من الإصلاحات الهيكلية بالتزامن مع انطلاق البرامج التنفيذية لرؤية المملكة 2030، كان من أهمها إقرار نظام الرسوم على الأراضي البيضاء في المدن والمحافظات، الذي استهدف حسبما نص في مادته الثانية على تحقيق الآتي: (1) زيادة المعروض من الأراضي المطورة بما يحقق التوازن بين العرض والطلب. (2) توفير الأراضي السكنية بأسعار مناسبة. (3) حماية المنافسة العادلة، ومكافحة الممارسات الاحتكارية، إلا أن آلية تنفيذه طوال الأعوام الستة الماضية لم ترتق بعد إلى تحقيق تلك الأهداف الثلاثة الرئيسة أعلاه، وهو ما دعا كثيرا من المختصين بهذا الشأن إلى المطالبة بسرعة تفعيل وتنفيذ المراحل التنفيذية للنظام، ولا تزال تلك الدعوات مستمرة حتى تاريخه، ذلك أن النتائج الإيجابية المرتقبة من اكتمال تنفيذ نظام الرسوم على الأراضي البيضاء لن تقف عند مجرد تحقق الأهداف الرئيسة من إقرار النظام، بل تتجاوزها إلى ما هو أبعد من كل ذلك، وصولا إلى زيادة تحفيز نشاطات الاقتصاد الوطني بأكملها، والقطاع الخاص تحديدا، التي سيسهم نموها مجتمعة بعد تخلصها من أعباء التضخم المستمر لأسعار الأراضي والعقارات، وبما يمثله كل ذلك من عبء ثقيل الوزن في جانب تكاليف التشغيل والإنتاج بالنسبة للمنشآت العاملة في مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، عدا ما تشكله أيضا من وزن ثقيل في سلة تكاليف المعيشة بالنسبة للشرائح الاستهلاكية من أفراد أسر المجتمع، ما يؤكد في المجمل أن تحقق هذه المنافع والإيجابيات المنتظرة لزوال التضخم الراهن وغير المبرر في أسعار الأراضي والمنتجات العقارية، من شأنه أن يفتح آفاقا واعدة جدا لا حصر لها أمام هذه الأولويات التنموية، التي يمثل النمو الاقتصادي والمستدام عنوانها الرئيس.
إن من أهم مؤشرات نجاح وفعالية السياسات والبرامج الاقتصادية، أن تتسم في أغلبها بالرتم الهجومي الطامح إلى اقتناص فرص اليوم والمستقبل، وهو الأمر الذي لا يتاح وجوده أمام واضعي تلك السياسات والبرامج إلا كلما انخفض حجم ومستوى التحديات الناتجة عن أوجه القصور في سياسات اقتصادية سابقة، وعلى العكس تماما حينما ينشغل واضعو السياسات في جل وقتهم بمعالجة أوجه القصور أو التشوهات الهيكلية الناتجة عن سياسات سابقة، فهذا يعني أنها تقف في منطقة دفاعية، وكأنما ندور في حلقة مفرغة، وهو ما سيستغرق منها جهودا طويلة الأجل دون جدوى حقيقية، ويستنزف كثيرا من الموارد والزمن لامتصاص آثار استدامة تلك التشوهات، وهو أيضا ما سيعيق تقدمها نحو التحول إلى المنطقة الهجومية، المفترض الانطلاق منها نحو حسن استغلال الفرص الراهنة والمستقبلية.
لأجل هذا لا بد من الإسراع بنقل عجلة السياسات والبرامج الاقتصادية من منطقة الدفاع إلى منطقة الهجوم، وهذا لن يتأتى بأي حال من الأحوال إلا بتفعيل جميع السياسات والبرامج، ووضعها في موضع التشغيل المتكامل والمرتفع الفعالية، ومن ثم الانتقال إلى منطقة الهجوم على الفرص الواعدة الراهنة، التي سيؤدي اقتناصها فترة بعد فترة إلى ولادة فرص أكبر وأثمن، وهو الأمر الذي نقف خلال الفترة الراهنة على مشارفه المستقبلية الواعدة، ولا يقف بيننا وبين الانتقال إليه إلا ما سبقت الإشارة إليه أعلاه بخصوص التعامل الحازم مع أحد أعتى التشوهات الهيكلية لدينا، المتمثل في التضخم الراهن لأسعار الأراضي، وما سبق الحديث عن مخاطر وجوده واستدامته في المقال السابق "نمو القطاع الخاص والتوظيف مقابل تضخم الأراضي".
نقلا عن الاقتصادية
شكرا على هذا المقال الجميل ..........ارجو الله ان ينتهي احتكار الاراضي والذي اثر على نمو القطاعات الانتاجية بشكل كبير