التسعير في السوق التنافسية .. قراءة فقهية واقتصادية

30/08/2021 1
د.صالح السلطان

الأسواق وفي المدن خاصة من حيث قدرتها على التحكم في سلعة ما وسعرها، باختصار، على ثلاث درجات: سوق انفرادية وسوق قلة وسوق تنافسية. والتركيز هنا على السوق الأخيرة، وهي التي يبيع السلعة فيها عدد كبير من البائعين المستقلين عن بعض. وينتج من ذلك استبعاد قدرتهم على التعاون بينهم للاتفاق على سعر بعينه عمليا، بل التنافس بينهم هو الأساس. ومن المهم ابتداء التنبيه على أن الحديث هنا لا علاقة له بإلزام البائعين بكتابة الأسعار بصورة واضحة أمام المشترين.

الأمثلة في المدن على أسواق تنافسية كثيرة، وهذه أمثلة: البقالات والشقق المعروضة للبيع أو للإيجار أو محال بيع الخضار والفاكهة أو ورش صيانة السيارات أو محال الخياطة أو مقاولو بناء أو ترميم البيوت.

يرى جمهور الفقهاء أن الأصل عدم التسعير. وهذا يعني وجود حالات خلاف الأصل فتتطلب التسعير. وبحث ذلك من شأن علم الاقتصاد، وبصورة أعم بحث وفهم ماهية وطبيعة الأسواق والسلع وتأثيرات ذلك في أطراف التعامل وفي الاقتصاد.

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق. وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال). رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن حبان.

يفهم من الحديث أن الغلاء أمر حادث. ولا غرابة في طلب الناس التسعير فقد خلق الإنسان جزوعا.

هل يبدو لنا وجود تعارض بين تحريم فعل قوم شعيب وامتناع الرسول عن التسعير؟ لا. ذلك أن فعل قوم شعيب كان مخالفة مواصفات بالتعبير العصري. كان قوم شعيب في أقصى شمال جزيرة العرب وهو موقع استراتيجي خاصة تجاريا. لكنهم لم يستغلوه في تعاملهم مع غيرهم بما ينفعهم على المدى البعيد، بل كانوا معتادين على مفاسد كقطع السبيل وسوء المعاملة والغش في الكيل والميزان.

سلوكيات على شاكلة غش قوم شعيب كانت من أسباب تدخل الحكومات بوضع تشريعات في المواصفات والمقاييس. وطبعا كانت الثورة الصناعية عاملا مسهلا لتدخل الحكومات.

أشهر مدافع عن جواز التسعير عند الحاجة هو الإمام العلامة ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم - رحمهما الله تعالى -. ومن يرغب في التوسع فله الرجوع إلى كتاب «الحسبة» لابن تيمية، وكتاب «الطرق الحكمية» لابن القيم. وقد تكلم الشيخان في كتابيهما عن التسعير وتصرفات تجارية أخرى كثيرة غير مشروعة. وقد عرف عن ابن تيمية، خصوصا، سعة علمه وتبحره في علوم كثيرة.

والقول إن التسعير عند الحاجة قائم على أن الأصل عدم التسعير، لكن الله - سبحانه - يأمر بالعدل، وقد تتطلب ممارسة نشاط بعينه التسعير. وإذا عرف ذلك، فإن النقاش يتوجه إلى الدخول في تفاصيل للتعرف على أمرين: الأول الحاجة والثاني طبيعة الأنشطة.

هذه القضايا وأمثالها لم يرد بشأنها تفصيل أو تحديد من الشرع، ومصدر العلم بها أو التعرف عليها الكون عبر النظر ودراسة وبحث ورأي ذوي الاختصاص. كما أن للخبرة والأعراف دورا.

واستنادا إلى التوضيح السابق، أنقل هنا بعض أهم ما قاله ابن تيمية عن التسعير: "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق ...‏".

بعض كلام المؤلف - رحمه الله تعالى - هو من الفقه بمعناه الاصطلاحي، وبعضه ليس كذلك، وهو موضع الاهتمام هنا:

قوله "الوجه المعروف ... عوض المثل:"، ليست لها حدود مقدرة، ومعايير محددة شرعا، ولذا فإن الفقهاء ليسوا أولى من غيرهم في إعطاء رأي في معرفة وتقدير الوجه المعروف وعوض المثل ونحو ذلك. وأقول هذا لأن بعض الناس يخلط بين معرفة المبادئ ذات العلاقة (مثل وجوب العدل وتحريم الظلم والغش والخداع، واستغلال الناس) وبين تطبيق هذه المبادئ على الواقع المستلزم الرجوع إلى العرف والخبرة و/أو المعرفة الفنية.

تفسيرات المؤلف - رحمه الله - تعد نظرة منه في فهم عمل الأسواق، وهي نظرة تدل على سعة فهم وقوة ملاحظة، ويجب أن تقرأ تلك التفسيرات في إطار الفهم السائد آنذاك لآلية السوق، مأخوذا بعين الاعتبار ببساطة الحياة، وبساطة الفهم لعمل قوى السوق آنذاك، خلاف أن ابن تيمية لم يكتب أصلا بهدف شرح عمل السوق بالبسط والتفصيل.

وقوله "كثرة الخلق" تعد عبارة مجملة من وجهة علم الاقتصاد، حيث المعول هو على زيادة الطلب (أي إن منحنى الطلب انتقل من مكانه في التحليل الجزئي).

كما أن السعر قد يرتفع دون ظلم من الناس، ولو لم يقل الشيء ولم يكثر الخلق، ولم يزد الدخل، لسبب خارجي عن بائع التجزئة.

باختصار، السعر في البحث الاقتصادي النظري والتطبيقي يخضع لعمل قوى كثيرة جدا في وقت واحد، ولا بد من التعرف عليها وفرزها. وتبحث هذه الأمور بالتفصيل في الاقتصاد الجزئي.

 

نقلا عن الاقتصادية