في الأسبوع الماضي، دشنت المملكة في مقر الأمم المتحدة في فيينا "مبادرة الرياض" الرامية إلى تأسيس شبكة عمليات دولية لتبادل المعلومات بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم. وكانت المملكة، خلال رئاستها مجموعة العشرين في العام الماضي، قد عملت على تطوير وإطلاق شبكة "مبادرة الرياض"، إيمانا منها بأهمية تعزيز جهود التنمية المستدامة دوليا، بالشراكة مع دول مجموعة العشرين والمنظمات الدولية ذات الصلة بمكافحة الفساد.
ولعلنا نستفيد من خبرات الدول المتقدمة، التي حققت نجاحاتها في التنمية المستدامة، من خلال حوكمة قطاعها الخاص ودعمه وتشجيعه. ولا شك أن أفضل مثال على ذلك بريطانيا، التي كانت توصف في النصف الأول من القرن الـ20 برجل أوروبا المريض نتيجة منافسة مؤسساتها الحكومية لاستثمارات القطاع الخاص، ما أدى إلى تراجع هذه الاستثمارات واشتداد وتيرة البطالة.
ويحكى أن السيدة الحديدية "مارجريت تاتشر"، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، تألمت غيرة على قطاعها الخاص عندما نما إ‘لى علمها في منتصف عام 1989 بأن مساعي استثمارات شركات تصنيع السيارات اليابانية في بريطانيا باءت بالفشل، نتيجة التحديات التي يواجهها القطاع الخاص البريطاني. وعندما نما إلى علمها بأن الشركات اليابانية عزمت على نقل استثماراتها ومصانعها إلى فرنسا وإيطاليا، سارعت السيدة الحديدية مع نصف طاقمها الوزاري إلى السفر إلى اليابان، واجتمعت برؤساء مصانع السيارات لتسويق مزايا الاستثمار في بلادها، التي وعدت بتعديلها وتحسينها، وحثهم على نقل استثماراتهم من فرنسا وإيطاليا، لتنجح في إقناعهم لتأسيس مصانعهم في بريطانيا.
ولدى عودتها من اليابان، أقدمت السيدة الحديدية على إعادة هيكلة أجهزتها الحكومية وتخصيص معظم مؤسساستها، وإعادة صياغة أنظمتها، لتنتفض بريطانيا من كبوتها وتنهي حقبة عرقلة قطاعها الخاص. وأبدعت رئيسة الوزراء في دعم وتشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية، لتصبح بريطانيا اليوم رابع أقوى دولة في العالم، وخامس أكبر اقتصاد في القرية الكونية، فارتقت إلى المرتبة السادسة على مؤشر سهولة الأعمال الصادر عن البنك الدولي، وفازت بالمركز الخامس في تقرير حماية المستثمرين، الصادر عن مؤسسة "أونكتاد".
كما تفتخر بريطانيا اليوم بأن مصانع السيارات اليابانية الموجودة في بريطانيا، أسهمت في توطين أكثر من 250 ألف وظيفة لإنتاج 1.5 مليون سيارة سنويا، بمعدل سيارة واحدة كل 20 ثانية، نصفها فقط من مصنع شركة "نيسان" اليابانية، التي تفوق إنتاجها في العام الماضي 130 في المائة على كامل إنتاج إيطاليا السنوي من السيارات.
وجاء تقرير أنشطة الأعمال، الصادر عن البنك الدولي في العام الجاري، ليؤكد أن الدول التي تمنح قطاعها الخاص الثقة والدعم والتشجيع، تصبح استثماراته المصدر الرئيس لموارد الدولة المالية، والوسيلة المميزة لنقل المعرفة وتوطين التقنية، وزيادة القدرة التصديرية، وتوليد الوظائف الجديدة، وتدريب العمالة الوطنية، إضافة إلى قدراته على تحسين ميزان المدفوعات وزيادة معدل الأجور ورفع الكفاءة الإنتاجية للشركات.
هذه المؤشرات، التي حددها البنك الدولي، جاءت جميعها لتتماشى مع رؤية المملكة 2030 وأهداف برنامج التحول الوطني، خاصة تلك الأهداف التي تسعى إلى رفع نسبة إسهام القطاع الخاص من 40 إلى 65 في المائة خلال خمسة أعوام، من خلال تيسير أعماله وتذليل عقباته ومنحه الثقة لضخ استثماراته المباشرة، ورفع نسبتها لإجمالي الناتج المحلي من 3.8 في المائة إلى المعدل العالمي 5.7 في المائة. لذا، طالبت الرؤية والبرنامج بضرورة رفع نسبة التجارة في سوق التجزئة في المملكة إلى 80 في المائة، من خلال جذب تجار التجزئة الإقليميين والدوليين، وتخفيف القيود المتعلقة بالملكية والاستثمار، وتسهيل حركة البضائع، محليا وإقليميا.
ولكون قطاعنا الخاص بأطيافه كافة يعد العمود الفقري لاقتصاد المملكة، لأنه يوفر أكثر من 77 في المائة من فرص العمل، وتزيد ثرواته واستثماراته على نحو 2.5 تريليون ريال، لتغطي 72 في المائة من القطاع الاستهلاكي، و48 في المائة من قطاع البناء والعقارات، و32 في المائة من القطاع الصناعي، و12 في المائة من قطاعات الطاقة والبتروكيماويات، فإن سرعة تأقلمه مع مبادئ اقتصاد السوق وأحكام التجارة الحرة، سيؤدي حتما إلى تعظيم قدراته على المنافسة وتحقيق رؤيتنا الهادفة إلى صعود المملكة من المركز الـ25 إلى أحد المراكز العشرة الأولى في مؤشر التنافسية العالمي.
تنفيذ أهداف رؤيتنا الطموحة، سيؤدي حتما إلى تحقيق التنمية المستدامة المستهدفة، خاصة أن استثمارات قطاعنا الخاص تشكل عنصرا مهما من عناصر الدخل القومي لإسهامها في تكوين رأس المال الثابت، ومشاركتها في توسيع القاعدة التنموية، وزيادة الصادرات غير النفطية.
هذه الأهداف التنموية هي التي أسهمت في تحقيق نجاحات برامج التحول الوطني، التي تنادي بضرورة تحسين بيئة الأعمال وتعظيم دور قطاعنا الخاص، من خلال تعزيز شراكته مع القطاع الحكومي، وتشجيع استثماراته الوطنية والأجنبية، ودعم مشاريعه الصغيرة والمتوسطة، وذلك استجابة للمتغيرات الاقتصادية المحلية والدولية. وعليه، فمن واجبنا الاستمرار في دعم وتشجيع قطاعنا الخاص ورفع قدراته، لكي ينجح في تنفيذ واجباته وزيادة عوائده وتحقيق التنمية المستدامة التي نصبو إليها.
نقلا عن الاقتصادية